تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٩ - الصفحة ١٠٤
بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو انقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى. وهو كما ترى وقيل الاستثناء من إعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للاستعراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قم الليل الخ.
* (ورتل القرآن) * أي في أثناء ما ذكر من القيام أي أقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف * (ترتيلا) * بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
* (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) * * (إنا سنلقي عليك) * أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى: * (قولا ثقيلا) * وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام كأنه قيل أنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها وادخل بعضهم في الاعتراض جملة ورتل الخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثقيلا أنه رصين لأحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل عن الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقيه يعني يثقل عليه صلى الله عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحي إليه عليه الصلاة والسلام على أنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة والسلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ إلا الأعلى بحيث يسمع ما يوحى به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة والسلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلى الله عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحى إليه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت أنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وروى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وأن جبينه ليتفصد عرقا وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثقيلا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي إلقاء ثقيلا وليس صفة قولا وقيل ذلك كناية عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه وقيل ثقلة باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل
(١٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 ... » »»