تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٢ - الصفحة ١٩٤
لا العكس لعدم استقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو ههنا إن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى.
* (مصدقا لما بين يديه) * أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب * (مصدقا) * على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقا وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الإلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام، واللام للتقوية * (إن الله بعباده لخبير بصير) * محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم * (الخبير) * للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية، وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن الله لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ".
* (ثم أورثنا الكت‍ابالذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظ‍الم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) *.
* (ثم أورثنا الكتاب) * أي القرآن كما عليه الجمهور، والعطف قيل على * (الذي أوحينا) * وقيل على * (أوحينا) * بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه * (الذين اسصطفينا من عبادنا) * وهم كما قال ابن عباس. وغيره أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام، و * (ثم) * للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه صلى الله عليه وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه، وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلى الله عليه وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وجوز أن يكون معنى * (أورثنا الكتاب) * حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء.
ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر. وفي شرح الرضي أن ثم قد تجىء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى: * (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * (هود: 3) فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيدا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه اه‍.
وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية، وجوز أن يكون * (ثم أورثنا) * الخ متصلا بما سبق من قوله تعالى: * (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * (فاطر: 24) والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية، والكتاب القرآن كما قيل * (وإنه لفي زبر الأولين) * (الشعراء: 196) وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولا وعقبه بما ينبىء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: * (فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) * (فاطر: 25) وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: * (إن
(١٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 189 190 191 192 193 194 195 196 197 198 199 ... » »»