ويجوز أن تكون الأولى انتقالية والمنتقل منه ما تقدم بقطع النظر عن خصوصه والجملة غير داخلة في النجوى، وكلا الوجهين وجيه وليس فيهما إلا اختلاف معنى بل، وكون الأولى من الحكاية والأخيرتين من المحكى ولا مانع منه.
وجوز أن تكون الأولى من كلامهم وهي إبطالية أيضا متعلقة بقولهم هو سحر المدلول عليه بأفتأتون السحر. ورد بأنه إنما يصح لو كان النظم الكريم قالوا بل الخ ليفيد حكاية اضرابهم، وكونه من القلب وأصله قالوا بل لا يخفى ما فيه، وقد أجيب أيضا بأنه اضراب في قولهم المحكى بالقول المقدر قبل قوله تعالى: * (هل هذا) * الخ أو الذي تضمنه النجوى وأعيد القول للفاصل أو لكونه غير مصرح به ولا يخفى ما فيه أيضا، وجوز أن تكون الثلاثة من كلامه عز وجل على أن ذلك تنزيل لأقوالهم في درج الفساد وأن قولهم الثاني أفسد من الأول والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث، ويطلق على نحو هذا الاضراب الترقي لكن لم يقل هنا ترقيا إشارة إلى أن الرتقي في القبح تنزيل في الحقيقة، ووجه ذلك كما قال في الكشف أن قولهم إنه سحر أقرب من الثاني فقد يقال: إن من البيان لسحرا لأن تخاليط الكلام التي لا تنضبط لأشبه لها بوجه بالنظم الأنيق الذي أبكم كل منطيق، ثم ادعاء أنها مع كونها تخاليط متفريات أبعد وأبعد لأن النظم بمادته وصورته من أتم القواطع دلالة على الصدق كيف وقد انضم إليه أن القائل عليه الصلاة والسلام علم عندهم في الأمانة والصدق، والأخير هذيان المبرسمين لأنهم أعرف الناس بالتمييز بين المنظوم والمنثور طبعا وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام الذي لا يشبه بليغات خطبهم فضلا عن ذلك وبين محسنات الشهر ومحسنات هذا النثر هذا فيما يرجع إلى الصورة وحدها، ثم إذا جئت إلى المادة وتركب الشعر من المخيلات والمعاني النازلة التي يهتدي إليها الإجلاف وهذا من اليقينيات العقدية والدينيات العملية التي عليها مدار المعاد والمعاش وبها تتفاضل الإشراف فأظهر وأظهر، هذا والقائل عليه الصلاة والتسليم ممن لا يتسهل له الشعر وان أراده خالطوه وذاقوه أربعين سنة اه.
وكون تركب الشعر من المخيلات باعتبار الغالب فلا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكمة " لأنه باعتبار الندرة ويؤيده التأكيد بأن الدالة على التردد فيه، وقد جاء الشاعر بمعنى الكاذب بل قال الراغب: إن الشاعر في القرآن بمعنى الكاذب بالطبع، وعليه يكون قد أرادوا قاتلهم الله تعالى بل هو وحاشاه ذو افتراءات كثيرة، وليس في بل هنا على هذا الوجه إبطال بل إثبات للحكم الأول وزيادة عليه كما صرح بذلك الراغب، وفي وقوعها للإبطال في كلام الله تعالى خلاف فاثبته ابن هشام ومثل له بقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) * (الأنبياء: 26) ووهم ابن مالك في " شرح الكافية " فنفاه، والحق أن الإبطال إن كان لما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن وإن كان لما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال لأنه بداء، وربما يقال: مراد ابن مالك بالمنفى الضرب الثاني، ثم إن هذا الوجه وإن كان فيه بعد لا يخلو عن حسن كما قيل فتدبر.
* (فليأتنا بآية) * جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولا من الله عز وجل كما يقول فليأتنا بآية * (كما أرسل الأولون) * وقدر النيسابوري غير هذا الشرط فقال أخذا من كلام الإمام في بيان حاصل معنى الآية: إنهم أنكروا أولا كون الرسول من جنس البشر ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة وما كل خارق لها