تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظا ومعنى إذ قبل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: * (فينسخ الله) * (الحج: 52) الخ لأنه أيضا يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى: * (وليعلم) * الخ على انتفاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل.
هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فكيف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال: والذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه وما عرفته حتى ولى إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلى الله عليه وسلم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضا لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلا إن قلنا بحياتهما.
وأيضا قال المحققون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى: * (ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 52) دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارىء يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا، وأيضا حفظه صلى الله عليه وسلم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايا فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) * (الشعراء: 193، 194) وقلنا: إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلى الله عليه وسلم من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلى الله عليه وسلم في إرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) * (الإنعام: 35) ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى: إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن