على أنه عليه السلام من الشهداء.
وقال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في الماطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى. ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي.
وهذه الجملة - كما قال الطيبي - عطف من حيث المعنى على * (آتيناه الحكم) * (مريم: 12) كأنه قيل وآتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى:
* (واذكر فى الكتابمريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) * * (واذكر في الكتاب) * الخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليه الصلاة والسلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها * (مريم) * أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالاعيان.
وقوله تعالى: * (إذ انتبذت) * ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ماعطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل: هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف، وقيل: بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة.
وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقذ غير بين ولا مبين. وقيل: بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد. وقيل: * (إذا) * بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال. والانتباذ الاعتزال والانفراد.
وقال الراغب يقال: انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس. والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به.
وقوله تعالى: * (من أهلها) * متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه: * (مكانا شرقيا) * قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الاتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هناك للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بجبل على ما روي عن ابن عباس أبو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى:
* (فا اتخذت من دونهم حجابا فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا) * * (فاتخذت من دونهم حجابا) *