قوله تعالى: * (كفاى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * من جملة مقول القول المقدر، وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والباء سيف خطيب وجاء اسقاطها ورفع الاسم كما في قوله: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا * وقوله:
ويخبرني عن غائب المرء هديه * كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى: * (ما ءامنت قبلهم من قرية) * (الأنبياء: 6) * (وما تأتيهم من آية) * (الأنعام: 4) قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضا وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في " البحر " الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء الزائدة، ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك، وقيل هو اسم فعل بمعنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة، ومرضى الجمهور ما قدمناه، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس.
ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى أن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له، وهذا نحو ما قيل في مربهند وقيل غير ذلك، و * (اليوم) * ظرف لكفى و * (حسيبا) * تمييز كقوله تعالى: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) وقولهم: لله تعالى دره فارسا، وقيل: حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدى بعلي لأنه بمعنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلي كما تقول عدد عليه قبائحه، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدى بعلي كما يعدى الشهيد، وقيل هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدى تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد علي، وهو تكلف بارد، وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلا حسيبا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيبا عليك.
وجعل بعضهم في ذلك تجريدا فقيل: إنه غلط فاحش. وتعقب بأن فيه بحثا فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدا لكنه لا يتعلق به غرض هنا.
وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر.
وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول: رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك) * (:) الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى، ويقرأ في ذلك اليوم كما روى عن قتادة من لم يكن قارئا في الدنيا.
وجاء أن المؤمن يقرأ أولا سيآته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى قراءة السيآت وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيآتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورا وينقلب إلى أهله مسرورا ويقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيا.
وأما الكافر فيقرأ أولا حسناته وسيآته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة