تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ١٤٢
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال: المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول: إنه مختص بالثناء على الأنعام، وأما عند من يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز، وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود إجلاسه صلى الله عليه وسلم معه عز وجل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه، الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعث الله تعالى الميت إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد، القاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن ذلك علوا كبيرا، الثالث أنه سبحانه قال * (مقاما) * ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود، الرابع أن الحمقي والجهال يقولون: إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية له صلى الله عليه وسلم بإجلاسه معه عز وجل؛ الخامس أنه إذا قيل: بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لاصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال: إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل: إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين معجورين عند أهل العلم، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس، والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب.
وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به، قال ابن عطية: أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلى الله عليه وسلم يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى: * (إن الذين عند ربك) * (الأعراف: 206) وقوله سبحانه: حكاية * (ابن لي عندك بيتا) * (التحريم: 11) وقوله تعالى: * (وإن الله لمع المحسنين) * (العنكبوت: 69) إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بازجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: * (عسى أن يبعثك) * (الإسراء: 79) الخ يجلسني معه على السرير " فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤمن إلا التسليم، وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين الله عز وجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها، وقوله تعالى لهم: * (أنا ربكم) * وقولهم نعوذ بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين، وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلى الله عليه وسلم: " تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة - لعمر إلهك - لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد " الحديث، وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل، ومذاهب الحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى، ومتى أجريت هناك فلتجر عنا فالكل قريب من قريب. والصوفية يقولون: إن لله عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في
(١٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 ... » »»