وقدم قوله تعالى: * (لا إله إلا أنا) * على قوله سبحانه: * (فاتقون) * للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا، وله كمالات أخر هي كمالاته ابلدنية وقواه الحيوانية، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام [بم فقال عز قائلا:
* (خلق السماوات والارض بالحق تعالى عما يشركون) * .
* (خلق السموات والأرض بالحق) *.
وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى في أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدارة السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتى الرعاية والهداية، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه: * (واصبر) * (يونس: 109) إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز؛ والمراد بالسموات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد الألوهية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام؛ ولذا عقب هذا بقوله تعالى: * (تعالى عما يشركون) *.
وقرأ الأعمش * (فتعالى) * بالفاء، و * (ما) * يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر، وقرأ الكسائي * (تشركون) * بالتاء.
* (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين) * .
* (خلق الإنسان) * أي هذا النوع غير الفرد الأول منه * (من نطفة) * أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا * (فإذا هو) * بعد الخلق من ذلك * (خصيم) * منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي: بمعنى مخاصم، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر. * (مبين) * مظهر للحجة لقن بها؛ وقيل: المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل: * (من يحيى العظام وهي رميم) * (يس: 78) والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه: اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال: إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر