في كل، وظاهر الإطلاق الحقيقة، وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم * (الذين اتبعوه) * ولم يتخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم * (في ساعة العسرة) * أي في وقت الشدة والضيق، والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والاهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة، وفي شدة من الماء حتى تحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط، ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة. ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضا تأكيد لأمر التحريض السابق * (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) * بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة، وقيل: كان ميلا من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام. وفي * (كاد) * ضمير الشأن و * (قلوب) * فاعل * (يزيغ) * والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرا عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضا والرابط عليه الضمير في * (منهم) * وهذا على قراءة * (يزيغ) * بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة. وحفص. والأعمش وأما على قراءة * (تزيغ) * بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون * (قلوب) * اسم كاد و * (تزيغ) * خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ، وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني. وأبو طالب المكي. وغيرهما. وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد خلاف وضعه من جوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في " شرح المفصل " وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع. وأجاب بعض فضلاء الروم بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة، وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في ارتشافه أيضا، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أبي علي، على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعا ظاهرا فالحق الجواز، ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي من بعد ما كاد القوم. وضعف بأنه اضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم، وبأن خبرها يكون قد رفع سببيا وقد قالوا: إنه لا يرفع إلا ضميرا عائدا على اسمها وكذا خبر سائر اخواتها ما عدا عسى في رأي، ولا يخفى ورود هذا أيضا على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر على التوجيه الأول سهل. وجوز الرضى تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ أعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول * (كادت) * كما فرأ به الله تعالى عنه.
(٤٠)