أن * (لا) * في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:
فأنت من العواتك حين ترمي * ومن ذم الرجال بمنتزاح وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و * (من) * على تقدير كون * (لا) * ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعرض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظالم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد. وأما على الوجوه الأخر من كون * (لا) * نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: * (لا تصيبن) * صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالموا وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاما لأمة وفسرت الفتنة بإثرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: * (ولا تزل وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164) لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذا لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لأثمهم.
ويدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيهمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم، وأخرج الترمذي. وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب " وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرآنا هذه الآية زماما وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيا على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصا صوأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة * (واعلموا أن الله شديد العقاب) * لم خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه * (واذكروا إذ أنتم قليل) * أي في العدد، والجملة الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها [بم وقوله سبحانه:
* (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) *.
* (مستضعفون) * خبر ثان وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: * (في الأرض) * أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب. واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * خبر ثالث أو ثفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعدما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون