تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٩ - الصفحة ١٤٧
خذي العفو مني تستديم مودتي * ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين والمراد اعف عنهم، وفيه استعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس طلب فيؤخذ، وإلى هذا ذهب جمع من السلف، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: لما أنزل الله تعالى * (خذ العفو) * إلى آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك، ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى. وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء. وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفى من أموال الناس، أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة، وقيل: العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي. فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة * (وأمر بالعرف) * أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير، وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي. وقال عطاء: المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع * (وأعرض عن الجاهلين) * أي ولا تكافىء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم وأغض بما يسوؤك منهم. وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته، ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر، وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
وزبدتها كما قالوا تحرى حسن المعاشرة مع الناس وتوخى بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساوئهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة؛ وقد علم كل أناس مشربهم، ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله، وإذا قل: بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث أن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الإرعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الالتئام، هذا وعن ابن زد أنه لما نزل قوله تعالى: * (وأعرض عن الجاهلين) * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله سبحانه وتعالى:
* (وإما ينزغنك من الشيط‍ان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) *.
* (وإما ينزغنك من الشيط‍ان نزغ) * النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما بن القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج: هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل: النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه * (فاستعذ بالله) * فاستجربه والتجىء إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك * (إنه سميع) * سمع على أكمل وجه استعاذتك قولا * (عليم) * يعلم كذلك تضرعك
(١٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 152 ... » »»