تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ٤٨
وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين، وثلاث وعشرون عند البصريين، واثنان وعشرون عند غيرهم، ووجه اعتلاقها بسورة النساء - على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة - أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة. وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان، والضمني عقد الوصية والوديعة، والوكالة والعارية والإجارة، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (النساء: 58) فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك * (يا أيها الناس) * (النساء: 1) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي، وأول هذه * (يا أيها الذين آمنوا) * (المائدة: 1) وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب. ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.
* (ي‍اأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد) *.
بسم الله الرحم‍ان الرحيم. * (يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود) * الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه، ويقال: وفى ووفى وأوفى بمعنى، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد، وأصل العقد الربط محكما، ثم تجوز به عن العهد الموثق، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد " بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين، والعهد قد يتفرد به واحد " واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال: أحدها: أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وثانيها: العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الأيمان وعقد النكاح وعقد البيع ونحو ذلك، وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن أسلم، وثالثها: العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم، وروي ذلك عن مجاهد والربيع وقتادة. وغيرهم؛ ورابعها: العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضي التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح، وعليه فالمراد من الذين آمنوا مؤمنو أهل الكتاب؛ وهو خلاف الظاهر، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينا، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.
واستظهر الزمخشري " كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه " لما فيه - كما في " الكشف " - من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع، ولو لم يكن
(٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 ... » »»