تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ٣٩
كل واحد منهم أفضل من المسيح، قال في " الانتصاف " " وفيه نظر لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال: يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان أفضل من كل واحد من (آحاد) الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان (طار عن) بعض (الأئمة) (2) المعاصرين تفضيله بين التفضيلين، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أمارته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث (متظافرة) بذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن ترتفع درجة واحدة من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على (الفاضل) فيتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا " انتهى.
قلت: فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع؟ ليس في محله على هذا فتدبر، وقيل في الجواب: إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش، أو من هم أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع؛ ورد بأن المدعي أن في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بأل على الآحاد وأن المدعي ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه السلام، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من خواص الملك؛ وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا يقتضي ترتيبا، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل: ما (أعانني) على هذا الأمر زيد ولا عمرو، وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة - كما قال في " الانتصاف " - ثم قال فيه: " ولكن الحق أولى من المراء وليس بين المثالين تعارض، ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا (لله) غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى: * (ولا الملائكة المقربون) * إلا ما سلف أول الكلام، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس
(٣٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 ... » »»