تعالى: * (ليستخلفنهم فى الارض) *.
وقوله: * (ويجعلكم حلفاء الارض) *: انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، وهي حالة الخلافة، فهما ظرفان. وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكا متسلطا. وقرأ الجمهور: تذكرون، بتاء الخطاب؛ والحسن، والأعمش، وأبو عمرو: بياء الغيبة، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها. وقرأ أبو حيوة: تتذكرون، بتاءين. وظلمة البر هي ظلمة الليل، وهي الحقيقة، وتنطلق مجازا على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال: أظلم علي الأمر. وقال الشاعر:
تجلت عمايات الرجال عن الصبا أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات، وهداية البحر بالنجوم.
* (ومن يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته) *: تقدم تفسير نظير هذه الجملة. وقرئ: عما تشركون، بتاء الخطاب. * (أمن يبدأ الخلق) *: الظاهر أن الخلق هو المخلوق، وبدؤه: اختراعه وإنشاؤه. ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك، لا عموم المخلوق. وقال ابن عطية: والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان، كما تقول: فلان يبدىء ويعيد في أمركذا إذا كان يتقنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة؟ قلت: قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار. انتهى.
ولما كان إيجاد بني آدم إنعاما إليهم وإحسانا، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال: * (ومن يرزقكم من السماء) * بالمطر، * (والارض) * بالنبات؟ * (قل هاتوا برهانكم) *: أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره * (إن كنتم صادقين) * في أن مع الله إلها آخر. فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.
لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله: * (بل هم قوم يعدلون) *، أي عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. ولما ذكر جعل الأرض مستقرا، وتفجير الأنهار، وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله: * (بل أكثرهم لا يعلمون) *، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر، وكشف السوء، واستخلافهم في الأرض، ناسب أن يستحضر الإنسان دائما هذه المنة، فختم بقوله: قليلا ما تذكرون، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه، كما قال: * (نسى ما كان يدعو إليه من قبل) *. ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح نشرا، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها الله، قال تعالى: * (عما يشركون) *. واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: * (مع الله بل) *، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.
قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم)، وألحوا عليه، فنزل: * (قل لا يعلم من فى * السماوات والارض) *، الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم، والغيب مفعول، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من، وجاء مرفوعا على لغة تميم، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب. وعن عائشة، رضي الله عنها: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: * (قل لا يعلم من فى * السماوات والارض * الغيب إلا الله) *، ولا يقال: إنه مندرج في مدلول من، فيكون في السماوات والأرض ظرفا حقيقيا للمخلوقين فيهما، ومجازيا بالنسبة إليه تعالى، أي هو فيها بعلمه، لأن في ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز، وأكثر العلماء ينكر ذلك، وإنكاره هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح