تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٥٣
الفعل للمفعول، وحذف الفاعل، وهو جبريل عليه السلام، للدلالة عليه في قوله: * (نزل به الروح الامين) *. ولقي يتعدى إلى واحد، والتضعيف فيه للتعدية، فيعدى به إلى اثنين، وكأنه كان غائبا عنه فلقيه فتلقاه. قال ابن عطية: ومعناه يعطي، كما قال: * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) *. وقال الحسن: المعنى وإنك لتقبل القرآن. وقيل: معناه تلقن. والحكمة: العلم بالأمور العملية، والعلم أعم منه، لأنه يكون عمليا ونظريا، وكمال العلم: تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصونا عن كل التغيرات، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى. وهذه الآية تمهيد لما يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة الله، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى. قيل: وانتصب * (إذ) * باذكر مضمرة، أو بعليم؛ وليس انتصابه بعليم واضحا، إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول.
وقد تقدم طرف من قصة موسى عليه السلام في رحلته بأهله من مدين: في سورة طه، وظاهر أهله جمع لقوله: * (سئاتيكم) * و * (تصطلون) *، وروي أنه لم يكن معه غير امرأته. وقيل: كانت ولدت له، وهو عند شعيب، ولدا، فكان مع أمه. فإن صح هذا النقل، كان من باب خطاب الجمع على سبيل الإكرام والتعظيم. وكان الطريق قد اشتبه عليه، والوقت بارد، والسير في ليل، فتشوقت نفسه، إذ رأى النار إلى زوال ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال: * (إذ قال * بخير) *: أي من موقدها بخبر يدل على الطريق، * (إذ قال موسى لاهله) *: أي إن لم يكن هناك من يخبر، فإني أستصحب ما تدفؤون به منها. وهذا الترديد بأو ظاهر، لأنه كان مطلوبه أولا أن يلقي على النار من يخبره بالطريق، فإنه مسافر ليس بمقيم. فإن لم يكن أحد، فهو مقيم، فيحتاجون لدفع ضرر البرد، وهو أن يأتيهم بما يصطلون، فليس محتاجا للشيئين معا، بل لأحدهما الخبر إن وجد من يخبره فيرحل، أو الاصطلاء إن لم يجد وأقام. فمقصوده إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، وهو معنى قوله: * (لعلى اتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) *.
وجاء هنا: * (إذ قال موسى) *، وهو خبر، وفي طه: * (لعلى اتيكم منها بقبس) *، وفي القصص: * (فلما قضى موسى * بخير) *، وهو ترج، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر. ولكن الرجاء إذا قوي، جاز للراجي أن يخبر بذلك، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع. وأتى بسين الاستقبال، إما لأن المسافة كانت بعيدة، وإما لأنه قد يمكن أن تبطىء لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه. والشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقبوسة، فعل بمعنى مفعول، وهو القطعة من النار في عود أو غيره، وتقدم ذلك في طه. وقرأ الكوفيون: بشهاب منونا، فقبس بدل أو صفة، لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة: بالإضافة، وهي قراءة الحسن. قال الزمخشري: أضاف الشهاب إلى القبس،، واتبع في ذلك أبا الحسن. قال أبو الحسن: الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول: دار آجر، وسوار ذهب. والظاهر أن الضمير في * (جاءها) * عائد على النار، وقيل: على الشجرة، وكان قد رآها في شجرة سمر. وقيل: عليق، وهي لا تحرقها، كلما قرب منها بعدت. و * (نودى) * المفعول الذي لم يسم فاعله، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى عليه السلام. و * (ءان) * على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها، ويجوز أن تكون مصدرية. أما الثنائية التي تنصب المضارع، وبورك صلة لها، والأصل حرف الجر، أي بأن بورك، وبورك خبر. وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وتقديره بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن والقصة؟ قلت: لا، لأنه لا بد من قد. فإن قلت: فعلى إضمارها؟ قلت: لا يصح، لأنها علامة ولا تحذف. انتهى. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وبورك فعل دعاء، كما تقول: بارك الله فيك. وإذا كان دعاء، لم يجز دخول قد عليه، فيكون كقوله تعالى: * (والخامسة أن غضب الله عليها) * في قراءة من جعله فعلا ماضيا، وكقول العرب: إما أن جزاك الله خيرا، وإما أن يغفر الله لك، وكان الزمخشري بنى ذلك على * (أن بورك) * خبر لا دعاء، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة، وأجاز
(٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 ... » »»