تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١١٧
وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور، وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضي إلى موسى: الوحي الذي أوحى إليه. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقول: وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه، أو على الوحي إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته، وكتب التوراة له في الألواح، وغير ذلك. فإن قلت: كيف يتصل قوله: * (ولكنا أنشأنا قرونا) * بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكا؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكا من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا كثيرة، فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم.
* (العمر) *: أي أمد انقطاع الوحي، واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره. فإذن، هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده. * (وما كنت ثاويا) *: أي مقيما في أهل مدين، هم شعيب والمؤمنون. * (تتلو عليهم * ءاياتنا) *: تقرأ عليهم تعلما منهم، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه. ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها. * (إذ نادينا) *، يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه، ولكن علمناك. وقيل: * (فتطاول عليهم العمر) *، وفترت النبوة، ودرست الشرائع، وحرف كثير منها؛ وتمام الكلام مضمر تقديره: وأرسلناك مجددا لتلك الأخبار، مميزا للحق بما اختلف فيه منها، رحمة منا. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: وما كنت من الشاهدين في ذلك الزمان، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم، وأنت تخبر الآن عن تلك الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا، معجزة لك. وقيل: تتلو حال، وقيل: مستأنف، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب، ولكنا أرسلناك رسولا، وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم، ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه.
وقال الفراء: * (وما كنت ثاويا) * في أيهل مدين مع موسى، فتراه وتسمع كلامه، وها أنت * (تتلو عليهم * ءاياتنا) *: أي على أمتك، فهو منقطع. انتهى. قيل: وإذا لم يكن حاضرا في ذلك المكان، فما معنى: * (وما كنت من الشاهدين) *؟ فقال ابن عباس: التقدير: لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرت، فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك: ولا يشهد ولا يرى. وقال مقاتل: لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا إليك هذه الأخبار، ولولا ذلك ما علمت. وقال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين، تتلو عليهم آيات الكتاب، وإنما كان غيرك، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا، فأرسلنا إلى مدين شعيبا، وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. انتهى.
وقال الطبري: * (إذ نادينا) * بأن: * (خير للذين يتقون) *. وعن أبي هريرة: أنه نودي من السماء حينئذ يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني، فحينئذ قال موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. فالمعنى: إذ نادينا بأمرك، وأخبرناك بنبوتك. وقرأ الجمهور: * (رحمة) *، بالنصب، فقدر: ولكن جعلناك رحمة، وقدر أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة: بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنت رحمة. * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير) *: أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى، وهو خمسمائة وخمسون عاما ونحوه. وجواب * (لولا) * محذوف. والمعنى: لولا أنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولا؟ لولا أنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولا؟ محتجين بذلك علينا ما أرسلنا إليهم: أي إنما أرسلنا الرسل إزالة لهذا العذر، كما قال: * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، أن * (تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) *. وتقدير الجواب: ما أرسلنا إليهم الرسل، هو قول الزجاج. وقال ابن عطية: تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه. والمصيبة: العذاب. ولما كان أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، عبر عن كل عمل باجتراح الأيدي، حتى أعمال القلوب، اتساعا في الكلام، وتصيير الأقل تابعا للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل. والفاء في * (فيقولوا) * للعطف على نصيبهم، ولولا الثانية للتحضيض. وفنتبع: الفاء فيه جواب للتحضيض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة، لما كانت هي السبب للقول
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 ... » »»