فرعون في مخرقته، ونادى وزيره هامان، وأمره أن يوقد النار على الطين. قيل: وهو أول من عمل الآجر، ولم يقل: أطبخ الآخر، لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
* (فاجعل لى صرحا) *: أي ابن لي، لعل أطلع إلى إله موسى. أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم، يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافه سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل، يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني، وقد اختلف في ذلك، فقيل: بناه، وذكر من وصفه بما الله أعلم به. وقيل: لم يبن. واطلع في معنى: اطلع، يقال: طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد، أي صعد، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق، إذ ليس لهم ذلك، فهم مبطلون في استكبارهم، حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو الله. وقرأ حمزة، والكسائي، ونافع: لا يرجون، مبنيا للفاعل؛ والجمهور: مبنيا للمفعول. والأرض هنا أرض مصر. * (فنبذناهم فى اليم) *: كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا، شبهوا بحصيات. قذفها الرامي من يده، ومنه نبذ النواة، وقول الشاعر:
* نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا من نعالك باليا * وقوم فرعون وفرعون، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلب بني إسرائيل، فإن ما ضمهم من القدر السابق، وإغراقهم في البحر، هو نبذ الله إياهم. وجعل هنا بمعنى: صبر، أي صيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم، اشتهروا بذلك وبقي حديثهم. وقال الزمخشري: وجعلناهم: دعوناهم، أئمة: دعاة إلى النار، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، وهو من قولك: جعله بخيلا وفاسقا إذا دعاه فقال: إنه بخيل وفاسق. ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلا وفاسقا، ومنه قوله عز وجل: * (وجعلوا الملئكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) *. ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر. انتهى. وإنما فسر جعلناهم بمعنى دعوناهم، لا بمعنى صيرناهم، جريا على مذهبه من الاعتزال، لأن في تصييرهم أئمة، خلق ذلك لهم. وعلى مذهب المعتزلة، لا يجوزون ذلك من الله، ولا ينسبونه إليه، قال: ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر، ومعنى الخذلان: منع الإلطاف، وإنما يمنعها من علم أنه لا ينفع فيه، وهو المصمم على الكفر، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال أيضا. * (لعنة) *: أي طردا وإبعادا، وعطف يوم القيامة على: * (فى هاذه الدنيا) *. * (من المقبوحين) *، قال أبو عبيدة: من الهالكين. وقال ابن عباس: من المشوهين الخلقة، لسواد الوجوه وزرقة العيون. وقيل: من المبعدين.
ولما ذكر تعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليه السلام فقال: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب) *، وهو التوراة، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام. * (من بعد ما أهلكنا القرون الاولى) *: قوم نوح وهود وصالح ولوط، ويقال: لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة. وانتصب بصائر على الحال، أي طرائق هدي يستبصر بها.