أي: في حسنة، أي: دار حسنة، أو منزلة حسنة. ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكته. وفي الله دليل على إخلاص العمل لله، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه. وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ، خلافا لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوبا بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوز زيدا لأضربن، فلا يجوز زيدا لأضربنه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاءه قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر، ولأجر الآخرة أي: ولأجر الدار الآخرة أكبر، أي: أكبر أن يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا. والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي: لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم. وقيل: يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، والذين صبروا على تقديرهم الذين، أو أعني الذين صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه؟ وعلى بذل الروح في ذات الله، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب.
* (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم * فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم * لرءوف رحيم) *: نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: الله أعظم أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؟ وتقدم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف، والمعنى: نوحي إليهم على ألسنة الملائكة. وقرأ الجمهور: يوحى بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها وعبد الله، والسلمي، وطلحة، وحفص: بالنون وكسرها. وأهل الذكر: اليهود، والنصارى، قاله: ابن عباس، ومجاهد، والحسن. وعن مجاهد أيضا: اليهود. والذكر: التوراة لقوله تعالى: * (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر) * وعن عبد الله بن سلام، وسلمان. وقال الأعمش، وابن عيينة: من أسلم من اليهود والنصارى. وقال الزجاج: عام فيمن يعزى إليه علم. وقال أبو جعفر وابن زيد: أهل القرآن. ويضعف هذا القول وقول من قال: من أسلم من الفريقين، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين، لأنهم مكذبون لهم. قال ابن عطية: والأظهر أنهم اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه الآية النازلة، إنما يخبرون من الرسل عن البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو كسر حجتهم ومذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه. وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسدون إليهم انتهى. والأجود أن يتعلق قوله: بالبينات، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: ثم أرسلوا؟ قال: أرسلناهم بالبينات والزبر، فيكون على كلامين، وقاله: الزمخشري وابن عطية وغيرهما. وقد يتعلق بقوله: وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أن النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظا ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة. والوجه الثاني: أن لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي: وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيدا بالسوط، لأن أصله ضربت زيدا بالسوط انتهى. وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما يليها، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال الشاعر