تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ١٧٩
نحوي، ومفعول اقضوا محذوف أي: اقضوا إلي ذلك الأمر وامضوا في أنفسكم، واقطعوا ما بيني وبينكم. وقرأ السري بن ينعم: ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف، أي: انتهوا إلي بشركم من أقضى بكذا انتهى إليه. وقيل: معناه أسرعوا. وقيل: من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي: فاصحروا به إلي وأبرزوه. ومنه قول الشاعر:
* أبى الضيم والنعمان تحرق نابه * عليه فأفضى والسيوف معاقله * * (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) *: أي: فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم، لأن توليكم لا يضرني في خاصتي، ولا قطع عني صلة منكم، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم، لم أسألكم عليه أجرا، إنما يثيبني عليه الله تعالى أي: ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا، ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر الله الطائعين له، فكذبوه، فتموا على تكذيبه، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان. وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه، أو بفنجيناه. وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين. ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب، وإلى ما صار إليه حالهم. وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب. والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم الرسول، وتسلية له صلى الله عليه وسلم).
* (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) *: من بعده أي: من بعد نوح رسلا إلى قومهم، يعني هودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وشعيبا. والبينات: المعجزات، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاؤوا به. وجاء النفي مصحوبا بلام الجحود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل. والمعنى: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها، كأن لم يبعث إليهم أحد. ومن قبل متعلق بكذبوا أي: من قبل بعثة الرسل. وقيل: المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول، ثم لحوا في الكفر وتمادوا، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لحهم في الكفر وتماديهم. وقال يحيى بن سلام: من قبل معناه من قبل العذاب، وهذا القول فيه بعد. وقيل: الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي: فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، يعني: أن شنشنتهم واحدة في التكذيب. قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو: أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي: من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى. والظاهر أن ما موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: بما كذبوا به. ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. وقرأ الجمهور: نطبع بالنون، والعباس بن الفضل بالياء، والكاف للتشبيه أي: مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر.
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق
(١٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 174 175 176 177 178 179 180 181 182 183 184 ... » »»