تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٣ - الصفحة ٤٥٠
عام الفتح. وقيل: فرضا على الأمة فنسخ عنه وعنهم. ولا يجوز أن يكون: فاغسلوا، أمر للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب، لأن تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري.
فاغسلوا وجوهكم، الوجه: ما قابل الناظر وحده، طولا منابت الشعر فوق الجهة مع آخر الذقن. والظاهر أن اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه. وكذلك الأذنان عرضا من الأذن إلى الأذن. ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه. والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأمورا بهما في الآية في غسل الوجه، ويرون ذلك سنة. وقال مجاهد: الاستنشاق شطر الوضوء. وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق: من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة. وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة: والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وأيديكم إلى المرافق، اليد: في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها. واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب. وقال الزمخشري: إلى، تفيد معنى الغاية مطلقا، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. ثم ذكر مثلا مما دخل وخرج ثم قال: وقوله: * (إلى المرافق * وإلى * الكعبين) * لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه. وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإن في ذلك خلافا. منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين: وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر. وأيضا فإذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء. فإذا لم يتصور أن يكون داخلا إلا بمجاز، وجب أن يحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة. فقول الزمخشري: عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين: أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج. وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المحمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام. وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه. وقال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أن الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. فالروايتان محفوظتان عن مالك. روى أشهب عنه: أنهما غير داخلتين، وروى غيره أنهما داخلتان انتهى. وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال: إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
والظاهر أن الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية، لأنه أمر بالوضوء للصلاة، فالآتي بها دونه تارك للمأمور، وتارك المأمور يستحق العقاب. وأيضا فقد بين أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه. والظاهر أن أول فروض الوضوء هو غسل الوجه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الجمهور: النية أولها. وقال أحمد وإسحاق: تجب التسمية في أول الوضوء، فإن تركها عمدا بطل وضوءه. وقال بعضهم: يجب ترك الكلام على الوضوء، والجمهور على أنه يستحب. والظاهر أن الواجب في هذه المأمور
(٤٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 445 446 447 448 449 450 451 452 453 454 455 ... » »»