قول جماعة: أم تريدون. وقال قوم: أم هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره: أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم) مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده، فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي. انتهى كلامه ونقله. وما قالوه ليس بجيد، بل هذا استفهام معناه التقرير، فلا يحتاج إلى معادل البتة، والأولى أن يكون المخاطب السامع، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جدا، خصوصا إذا دخل على النفي: * (أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين) *؟ * (أليس الله بأحكم الحاكمين) *؟ * (ألم نربك * بك * فينا وليدا) *؟ * (ألم يجدك يتيما فاوى) *؟ * (ألم نشرح لك صدرك) *؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل، لأنه إنما يراد به التقرير. والمعنى: قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء، فله التصرف في تكاليف عباده، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل. وحكمة إفراد المخاطب: أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك، والمنبه به، والمقرر على شيء ثابت عنده، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء، فلن يعجزه شيء، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه. وفي قوله: * (ألم تعلم أن الله) *، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو: * (من خير من ربكم) *، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم، فلذلك عدل عن قوله: * (ألم تعلم * إننا) * إلى قوله: * (ألم تعلم أن الله) *، وقد تقدم تفسيره قوله: * (إن الله على كل شىء قدير) * في أوائل هذه السورة، فأغنى ذلك عن إعادته.
* (ألم تعلم أن الله له ملك * السماوات والارض) *؟ هذا أيضا استفهام دخل على النفي فهو تقرير، فليس له معادل، لأن التقرير معناه: الإيجاب، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السماوات والأرض والاستيلاء عليهما، فهو يملك أموركم ويدبرها، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره، وخص السماوات والأرض بالملك، لأنهما من أعظم المخلوقات، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات. وإذا كان استيلاؤه على الطرفين، كان مستوليا على ما اشتملا عليه، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسموات، والسفلية بالأرض.
وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف، وهما: القدرة والاستيلاء، لأن الشخص قد يكون قادرا، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل. فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية، كمل بذلك التصرف مع الإرادة. وبدأ بالتقرير على وصف القدرة، لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان. * (وما لكم من دون الله) *: انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة، وناسب الجمع هنا، لأن المنفي بدخول من عليه صار نصا في العموم، فناسب كون المنفي عنه يكون عاما أيضا، كان المعنى: وما لكل فرد منكم فرد فرد. * (من ولي ولا نصير) *: وأتى بصيغة ولي، وهو فعيل، للمبالغة، ولأنه أكثر في الاستعمال، ولذلك لم يجيء في القرآن وال إلا في سورة الرعد، لمواخاة الفواصل، وأتى بنصير على وزن فعيل، لمناسبة ولي في كونهما على فعيل، ولمناسبة أواخر الآي، ولأنه أبلغ من فاعل. ومن زائدة في قوله: * (من ولى) *، فلا تتعلق بشيء. ومن: في * (من دون الله) * متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم، وهو يتعلق بمحذوف، إذ هو في موضع الخبر، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية، ويجوز أن تكون حجازية على ذهب من يجيز تقدم خبرها، إذا كان ظرفا أو مجرورا. أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية. وتكرر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير، وهو إيجاب من حيث المعنى، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفيا للولي والناصر، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء، ولا مغالب له تعالى فيما يريد.
* (أم تريدون