وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهم قسمان: المعفو عنهم رأسا لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن دون ما كسبوا، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة.
والسابقون إما محبون وإما محبوبون، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وأنابوا إليه حق إنابته، فهداهم سبله. والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية - الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله، فالقرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه:
* (كذلك لنثبت به فؤادك) * [الفرقان، الآية: 32]، وقوله: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فوادك) * [هود، الآية: 120] والمحب يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.
فعلى هذا، المتقون في هذا الموضع هم المستعدون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم، وبقاء نورهم الفطري، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدمة على الإيمان، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * أي: بما غاب عنهم الإيمان التقليدي، أو التحقيقي العلمي، فإن الإيمان قسمان: تقليدي وتحقيقي. والتحقيقي قسمان: استدلالي وكشفي، وكلاهما إما واقف على حد العلم والغيب، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمى علم اليقين. والثاني: إما عيني، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين، وإما حقي، وهو الشهود الذاتي المسمى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث: قلبية، وبدنية، وما حول