تفسير الرازي - الرازي - ج ١ - الصفحة ٢٦
تسخن واحتد وقويت حرارته، فاحتاج القلب إلى دفعه مرة أخرى، وذلك هو الانقباض فإن القلب إذا انقبض انعصر ما فيه من الهواء وخرج إلى الخارج، فهذا هو الحكمة في جعل الحيوان متنفسا، والمقصود بالقصد الأول هو تكميل جوهر النفس بالعلم والعمل، فوقع تخليق البدن في المرتبة الثانية من المطلوبية، ووقع تخليق القلب وجعله منبعا للحرارة الغريزية في المرتبة الثالثة، ووقع إقدار القلب على الانبساط الموجب لانجذاب الهواء الطيب من الخارج لأجل الترويح في المرتبة الرابعة، ووقع إقدار القلب على الانقباض الموجب لخروج ذلك الهواء المحترق في المرتبة الخامسة، ووقع صرف ذلك الهواء الخارج عند انقباض القلب إلى مادة الصوت في المرتبة السادسة، ثم إن المقدر الحكيم والمدبر الرحيم جعل هذا الأمر المطلوب على سبيل الغرض الواقع في المرتبة السابعة مادة للصوت، وخلق محابس ومقاطع للصوت في الحلق واللسان والأسنان والشفتين، وحينئذ يحدث بذلك السبب هذه الحروف المختلفة، ويحدث من تركيباتها الكلمات التي لا نهاية لها، ثم أودع في هذا النطق والكلام حكما عالية وأسرارا باهرة عجزت عقول الأولين والآخرين عن الإحاطة بقطرة من بحرها وشعلة من شمسها، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية.
الكلام اللساني:
المسألة الثالثة والأربعون: ظهر بما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلا الاصطلاح من الناس على جعل هذه الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر، ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاما أيضا، وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة، بل أمرا وضعيا اصطلاحيا، والتحقيق في هذا الباب: أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص يفعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الإرادات والاعتقادات، وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلما بهذه الحروف مجرد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص، وأما الكلام الذي هو صفة قائمة بالنفس فهي صفة حقيقية كالعلوم والقدر والإرادات. الكلام النفسي والذهني:
المسألة الرابعة والأربعون: لما ثبت أن الألفاظ دلائل على ما في الضمائر والقلوب، والمدلول عليه بهذه الألفاظ هو الإرادات والاعتقادات أو نوع آخر، قالت المعتزلة: صيغة " إفعل " لفظة موضوعة لإرادة الفعل، وصيغة الخبر لفظة موضوعة لتعريف أن ذلك القائل يعتقد أن الأمر الفلاني كذا وكذا، وقال أصحابنا: الطلب النفساني مغاير للإرادة، والحكم الذهني أمر مغاير للاعتقاد، أما بيان أن الطلب النفساني مغاير للإرادة فالدليل عليه أنه تعالى
(٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 ... » »»