الأخلاق العالية وضوابط السياسة والتمدن المحكمة، ومنطويا على قصص الأمم الماضية، وهاديا إلى الفكر الصحيح في المبدأ والمعاد. فكان لا بد من أن توجد فيه مواضع لم تكد تصل إلى فهمها عقول تلك الأمة الجديدة النشأة. فهل اجترأوا رضي الله عنهم، على أن يقولوا فيها بآرائهم؟ لا، والله! بل سألوا عنها رسولا قد أمره الله أن ﴿لا تحرك به لسانك لتعجيل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه، فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه﴾ (1). فتارة فسر الله ما أشكل عليهم بالوحي كما في آية " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " بلفظ " من الفجر " (2) وأخرى شرح النبي، صلى الله عليه وسلم، إشكال الآية، إما بآية أخرى نزلت من قبل كما فعل في (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) بآية (إن الشرك لظلم عظيم) (3). أو بألفاظه الطاهرة التي نحن نعتقد أنها تقوم مقام الوحي الخفي إذا صحت نسبتها إليه. فحفظت الصحابة، رضي الله عنهم، كل ما قال الله ورسوله في تفسير القرآن العزيز ورووه لتابعيهم بالاحسان (4).
لكنهم لم يدونوا تلك الروايات في الكتب والصحائف، أولا لان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قال: " لا تكتبوا عني. ومن كتب عني غير القرآن فليمحه " (5)، وثانيا لان الصحابة لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرب العهد إليه، ولقلة الاختلاف والواقعات وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات، كانوا مستغنين عن تدوين علم الشرائع، والاحكام، حتى أن بعضهم كره كتابة العلم " (6).
عهد التابعين فلما انقضي عصر الصحابة أو كاد، وصار الامر إلى تابعيهم، " انتشر الاسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن، واختلاف الآراء، وكثرت الفتاوى، والرجوع إلى الكبراء، فأخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن " (6).