لا يلتفت إليهم أكثر الناس لضعف حالهم ومسكنتهم واندفاعهم من أبواب الناس ومجالسهم. قوله: (وسقطهم)، بفتحتين أي: المتحقرون بين الناس الساقطون من أعينهم، هذا بالنسبة إلى ما عند الأكثر من الناس وبالنسبة إلى ما عند الله هم عظماء رفعاء الدرجات لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم لعظمة الله عندهم وخضوعهم له في غاية التواضع لله والذلة في عباده فوصفهم بالضعف والسقط بهذا المعنى صحيح، وأما معنى الحصر فبالنظر إلى الأغلب فإن أكثرهم الفقراء والمساكين والبله وأمثالهم، وأما غيرهم من أكابر الدارين فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات العلى، وأما معنى: وغرثهم، في رواية مسلم فهم أهل الحاجة والفاقة والجوع، وهو بفتح الغين المعجمة والراء المفتوحة وبالثاء المثلثة، والغرث في الأصل الجوع، ويروى: عجزهم، بفتح العين والجيم جمع عاجز، ويروى: غرتهم بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء وبالتاء المثناة من فوق وهم البله الغافلون الذين ليس لهم فكر وحذق في أمور الدنيا. قوله: (حتى يضع رجله)، لم يبين فيه الواضع من هو، وقد بينه في رواية مسلم حيث قال: حتى يضع الله رجله، والأحاديث يفسر بعضها بعضا. قوله: (ويروى)، على صيغة المجهول بالزاي: يضم بعضها إلى بعض فتجتمع وتلتقي على من فيها. قوله: (ينشئ لها خلقا)، أي: يخلق للجنة خلقا، وفي رواية مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: يبقى من الجنة ما شاء الله تعالى أن يبقى ثم ينشئ الله لها خلقا مما يشاء، وفي وراية له: ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة، قال النووي: هذا دليل لأهل السنة على أن الثواب ليس متوقفا على الأعمال، فإن هؤلاء يخلقون حينئذ ويعطون في الجنة وما يعطون بغير عمل ومثله أمر الأطفال والمجانين الذين لم يعملوا طاعة قط. وكلهم في الجنة برحمة الله تعالى وفضله، وفيه دليل أيضا على عظم سعة الجنة. فقد جاء في (الصحيح) (أن للواحد فيها مثل الدنيا عشرة أمثالها ثم يبقى فيها شيء لخلق ينشئهم الله تعالى لها). وفي (التوضيح) ويروى (أن الله لما خلقها، قال لها: امتدي فهي تتسع دائما أسرع من النبل إذا خرج من القوس).
ثم اعلم أن هذه الأحاديث من مشاهير أحاديث الصفات، والعلماء فيها على مذهبين أحدهما: مذهب المفوضة وهو الإيمان بأنها حق على ما أراد الله، ولها معنى يليق به وظاهرها غير مراد وعليه جمهور السلف وطائفة من المتكلمين، والآخر: مذهب المؤولة وهو مذهب جمهور المتكلمين، على هذا اختلفوا في تأويل القدم والرجل، فقيل: المراد بالقدم هنا المتقدم وهو سائغ في اللغة، ومعناه: حتى يضع الله فيها من قدمه لها من أهل العذاب، وقيل: المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم أو ثم مخلوق اسمه القدم، وقيل: المراد به الموضع. لأن العرب تطلق اسم القدم على الموضع. قال تعالى: * (لهم قدم صدق) * (يونس: 2) أي: موضع صدق فإذا كان يوم القيامة يلقي في النار من الأمم والأمكنة التي عصى الله عليها فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب موضعا من الأمكنة ومن الأمم الكافرة في النار فتمتلىء، وقيل: القدم قد يكون اسما لما قدم من شيء، كما تسمى ما خبطت من الورق خبطا، فعلى هذا من لم يقدم إلا كفرا أو معاصي على العناد والجحود فذاك قدمه وقدمه ذلك هو ما قدمه للعذاب والعقاب الحالين به، والمعاندون من الكفار هم قدم العذاب في النار، وقيل: المراد بوضع القدم عليها نوع من الزجر عليها والتسكين لها. كما يقول القائل لشيء يريد محوه وإبطاله، جملته تحت رجلي، ووضعته تحت قدمي. وقال الكرماني: يحتمل أن يعود الضمير إلى المزيد، ويراد بالقدم الآخر لأنه آخر الأعضاء أي: حتى يضع الله آخر أهل النار فيها، وأما الرواية التي فيها الرجل فقد زعم الإمام أبو بكر بن فورك أنها غير ثابتة عند أهل النقل، ورد عليه برواية (الصحيحين) بها. وقال ابن الجوزي: إن الرواية التي جاءت بلفظ الرجل تحريف من بعض الرواة لظنه أن المراد بالقدم الجارحة. فرواها بالمعنى فأخطأ، ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بالرجل إن كانت محفوظة الجماعة، كما تقول رجل من جراد فالتقدير يضع فيها جماعة وإضافتهم إليه إضافة اختصاص، واختلف المؤولون فيه، فقيل: إن الرجل تستعمل في الزجر كما تقول: وضعته تحت رجلي، وهذا قد مر في القدم، وقيل: المراد بها رجل بعض المخلوقين، وقيل: إنها اسم مخلوق من المخلوقين، وقيل: إن الرجل تستعمل في طلب الشيء على سبيل الجد كما يقال: قام في هذا الأمر على رجل، ومنهم من أنكر هذه الأحاديث كلها وكذبها، وهذا طعن في الثقات. وإفراط في رد (الصحاح) ومنهم من روى بعضها وأنكر أن يتحدث ببعضها وهو مالك، روى حديث النزول