المراد العزلة والانفراد عن الناس، ولما كان الشعاب الغالب عليها حلوها عن الناس ذكرت مثلا، وهذا كقوله في الحديث الآخر: وليسعك بيتك.
وفيه: فضل العزلة والانفراد عند خوف الفتن على المخالطة، وأما عند عدم الفتن فقال النووي مذهب الشافعي وأكثر العلماء: أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف: أن الاعتزال أفضل. قلت: يدل لقول الجمهور (قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)، رواه الترمذي في أبواب الزهد، وابن ماجة.
7872 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالم مع أجر أو غنيمة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
والحديث أخرجه النسائي في الجهاد عن عمرو بن عثمان بن سعيد عن أبيه عن شعيب به.
قوله: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) وقع جملة معترضة يعني: الله أعلم بعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته، فذلك المجاهد في سبيل الله، وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر بها، فقد أشرك مع سبيل الله سبيل الدنيا، وفي (المستدرك) على شرطهما، أي: المؤمن أكمل إيمانا. قال: الذي يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه. قوله: (كمثل الصائم القائم) زاد النسائي من هذا الوجه: الخاشع الراكع الساجد، وفي (الموطأ) وابن حبان: كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع، وفي رواية أحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله، مثله بالصائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب واللذات، وكذلك المجاهد ممسك لنفسه على محاربة العدو وحابس نفسه على من يقاتله. قوله: (وتوكل الله)، أي: ضمن الله بملابسة التوفي الجنة وبملابسة عدم التوفي الرجع بالأجر أو الغنيمة. قال الكرماني: يعني: لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول: يدخل الجنة بعد الشهادة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع جواز الاجتماع بينهما فهي قضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع، ووقع في رواية مسلم: (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي..) وفي رواية لمسلم من طريق الأعرج، عنه بلفظ: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته، وكذلك أخرجه مالك في (الموطأ) عن أبي الزناد). وفي رواية الدارمي من وجه آخر عن أبي الزناد، بلفظ: لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله وتصديق كلماته، ولفظ: الضمان والتكفل والتوكل والانتداب الذي وقع في الأحاديث كلها بمعنى: تحقيق الوعد على وجه الفضل منه، وعبر، صلى الله عليه وسلم، عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه بما جرت به العادة بين الناس بما تطمئن به النفوس، وتركن إليه القلوب. قوله: (بأن يتوفاه أن يدخله الجنة)، أي: بأن يدخله الجنة، و: أن، في الموضعين مصدرية، تقديره: ضمن الله بتوفيه بدخول الجنة، وفي رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان: إن توفاه، بالشرط والفعل الماضي أخرجه الطبراني. قوله: (أن يدخله الجنة) أي: بغير حساب ولا عذاب، أو، المراد: يدخله الجنة ساعة موته وقال ابن التين: إدخاله الجنة يحتمل أن يدخلها إثر وفاته تخصيصا للشهيد، أو بعد البعث، ويكون فائدة تخصيصه أن ذلك كفارة لجميع خطايا المجاهد، ولا توزن مع حسناته، قوله: (أو يرجعه)، بفتح الياء تقديره: أو أن يرجعه، بالنصب عطفا على أن يتوفاه. قوله: (سالما) حال من الضمير المنصوب في يرجعه. قوله: (مع أجر أو غنيمة)، إنما أدخل، وههنا قيل: لأنه قد يرجع مرة بغنيمة دون أجر، وليس كذلك على ما يجيء الآن، بل أبدا يرجع بالأجر كانت غنيمة أو لم تكن، قاله ابن بطال. وقال ابن التين والقرطبي: إن، أو، هنا بمعنى المواو الجامعة على مذهب الكوفيين، وقد سقطت في أبي داود وفي بعض روايات مسلم، وبه جزم ابن عبد البر، ورجحه التوربشتي شارح (المصابيح) والتقدير: أو يرجعه بأجر وغنيمة، وكذا وقع عند النسائي من طريق الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة، بالواو أيضا، وذهب بعضهم إلى أن: أو، على بابها وليست بمعنى: الواو، أي: أجر لمن لم يغنم أو غنيمة ولا أجر، وهذا ليس بصحيح لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: (ما من غازية تغزو في سبيل الله