وفيه مقال، وقال شيخنا: ما قاله ابن العربي مردود، فالسدي هو الكبير واسمه إسماعيل بن عبد الرحمن وثقه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد والنسائي وابن عدي، واحتج به مسلم. قلت: قول الترمذي هذا أصح من حديث الليث، يدل على أن حديث الليث أيضا صحيح، ولكن حديث السدي أصح. والظاهر أنه لم يصرح بصحته لأجل الليث، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري، وقال جمهور العلماء، منهم الشافعي: إن الأمر بكسر الدنان محمول على الندب. وقيل: لأنها لا تعود تصلح لغيره لغلبة رائحة الخمر وطعمها، والظاهر أنه أراد بذلك الزجر، قال شيخنا، رحمه الله تعالى: يحتمل أنهم لو سألوه أن يبقوها ويغسلوها لرخص لهم. وإن كان الدن لذمي فعندنا يضمن بلا خلاف بين أصحابنا، لأنه مال متقوم في حقهم، وعند الشافعي وأحمد: لا يضمن لأنه غير متقوم في حق المسلم، فكذا في حق الذمي. وإن كان الدن لحربي فلا يضمن بلا خلاف إلا إذا كان مستأمنا.
قوله: (أو تخرق)، بالخاء المعجمة على صيغة المجهول، عطف على قوله: (هل تكسر الدنان؟). والزقاق، بكسر الزاي: جمع زق جمع الكثرة، وجمع القلة أزقاق، وفيه أيضا الخلاف المذكور فإن كان شق زق الخمر لمسلم يضمن عند محمد وأحمد في رواية، وعند أبي يوسف لا يضمن لأنه من جملة الأمر بالمعروف. وقال مالك: زق الخمر لا يطهره الماء لأن الخمر غاص في داخله، وقال غيره: يطهره، ويبنى على هذا الضمان وعدمه، والفتوى على قول أبي يوسف خصوصا في هذا الزمان، وقد روى أحمد من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شفرة وخرج إلى السوق وبها زقاق خمر جلبت من الشام، فشق بها ما كان من تلك الزقاق. قوله: (فإن كسر صنما)، وفي بعض النسخ: وإن كسر، بالواو، وفي بعضها: وإذا كسر، وعلى تقدير جواب الشرط محذوف تقديره: هل يجوز ذلك أم لا؟ أو هل يضمن أم لا؟ وإنما لم يصرح بذكر الجواب لمكان الخلاف فيه أيضا. فقال أصحابنا: إذا أتلف على نصراني صليبا فإنه يضمن قيمته صليبا. يعني: حال كونه صليبا لا حال كونه صالحا لغيره، لأن النصراني مقر على ذلك، فصار كالخمر التي هم مقرون عليها. وقال أحمد: لا يضمن، وقال الشافعي: إن كان بعد الكسر يصلح لنفع مباح لا يضمن، وإلا لزمه ما بين قيمته قبل الكسر وقيمته بعده، لأنه أتلف ما له قيمة. وقال ابن الأثير: الصنم ما يتخذ إلها من دون الله، وقيل: ما كان له جسم أو صورة، وإن لم يكن له جسم ولا صورة فهو وثن. وقال في باب الواو: الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي يعمل وينصب ويعبد، والصنم الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة. قوله: (أو طنبور)، بضم الطاء وقد يفتح والضم أشهر، وهو آلة مشهورة من آلات الملاهي، وهو فارسي معرب. قوله: (أو ما لا ينتفع بخشبه) قال الكرماني: يعني: أو كسر شيئا لا يجوز الانتفاع بخشبه قبل الكسر، كآلات الملاهي المتخذة من الخشب، فهو تعميم بعد تخصيص، ويحتمل أن يكون: أو، بمعنى: إلى أن، يعني: فإن كسر طنبورا إلى حد لا ينتفع بخشبه ولا ينتفع بعد الكسر، أو عطف على مقدر، وهو: كسرا ينتفع بخشبه أي: كسر كسرا ينتفع بخشبه ولا ينتفع بعد الكسر. انتهى. وقال بعضهم: ولا يخفى تكلف هذا الأخير وبعد الذي قبله. انتهى.
قلت: الكرماني جعل لكلمة: أو، هنا ثلاث معان. منها: أن يكون للعطف على ما قبله، فيكون من باب عطف العام على الخاص. ومنها: أن يكون بمعنى: إلى أن، كما في قولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، وينتصب المضارع بعدها، وهو كثير في كلام العرب، ولا بعد فيه. ومنها: أن يكون معطوفا على شيء مقدر، وهذا أيضا باب واسع فلا تكلف فيه، وإنما يكون التكلف في موضع يؤتى بالكلام بالجر الثقيل.
والكلام في هذا الفصل أيضا على الخلاف والتفصيل، فقال أصحابنا: من كسر لمسلم طنبورا أو بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد: لا يضمن ولا يجوز بيعها، وقال أصحاب الشافعي عنه بالتفصيل: إن كان بعد الكسر يصلح لنفع مباح يضمن، وإلا فلا، وعن بعض أصحابنا: الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو، وأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس فيضمن بالاتفاق. وفي (الذخيرة) للحنفية: قال أبو الليث: ضرب الدف في العرس مختلف فيه، فقيل: يكره، وقيل) لا. وأما الدف الذي يضرب في زماننا مع الصنجات والجلاجلات فمكروه بلا خلاف.