فذكره عريفي لعمر، رضي الله تعالى عنه، فأتيته فقال: هو حر وولاؤه لك ورضاعه علينا، ومعنى تمثيل عمر بهذا المثل عسى النوير أبؤسا أن عمر اتهمه أن يكون ولده أتى به للفرض له في بيت المال، ويحتمل أن يكون ظن أنه يريد أن يفرض ويلي أمره ويأخذ ما يفرض له. ويصنع ما شاء، فقال عمر هذا المثل، فلما قال له عريفه: إنه رجل صالح صدقه، وقال الميداني في (مجمع الأمثال) تأليفه: الغوير تصغير غار، والأبؤس جمع بؤس، وهو الشدة. ويقال الأبؤس الداهية. وقال الأصمعي: إن أصل هذا المثل أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم، أو قال: فأتاهم عدو فقتلهم فيه، فقيل ذلك لكل من دخل في أمر لا يعرف عاقبته. وفي (علل الخلال) قال الزهري: هذا مثل يضربه أهل المدينة. وقال سفيان: أصله أن ناسا كان بينهم وبين آخرين حرب، فقالت لهم عجوز: إحذروا واستعدوا من هؤلاء فإنهم يألونكم شرا، فلم يلبثوا أن جاءهم فزع. فقالت العجوز: عسى الغوير أبؤسا، تعني: لعله أتاكم الناس من قبل الغوير، وهو الشعب. وقال الكلبي: غوير ماء لكلب معروف في ناحية السماوة، وقال ابن الأعرابي: الغوير طريق يعبرون فيه، وكانوا يتواصون بأن يحسروه لئلا يؤتوا منه، وروى الحربي عن عمرو عن أبيه. أن الغوير نفق في حصن الرباء، ويقال: هذا مثل لكل شيء يخاف أن يأتي منه شر، وانتصاب أبؤسا بعامل مقدر، تقديره: عسى الغوير يصير أبؤسا وقال أبو علي: جعل: عسى بمعنى: كان، ونزله منزلته، يضرب للرجل يقال له: لعل الشر جاء من قبلك، ويقال: تقديره: عسى أن يأتي الغوير بشر. قوله: (كأنه يتهمني)، أي: بأن يكون الولد له، كما ذكرنا أن يكون قصده الفرض له من بيت المال. قوله: (قال عريفي)، العريف النقيب، وهو دون الرئيس، قال ابن بطال: وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، قسم الناس أقساما وجعل على كل ديوان عريفا ينظر عليهم، وكان الرجل النابذ من ديوان الذي زكاه عند عمر، رضي الله تعالى عنه. قوله: (قال: كذلك)، أي: قال عمر لعريفه: هو صالح مثل ما يقول، وزاد مالك في روايته: قال: نعم، يعني: كذلك. قوله: (إذهب وعلينا نفقته)، وفي رواية مالك: إذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته، يعني: من بيت المال. وقال ابن بطال في هذه القضية: إن القاضي إذا سأل في مجلس نظره عن أحد فإنه يجتزىء بقول الواحد، كما صنع عمر، رضي الله تعالى عنه، وأما إذا كلف المشهود له أن يعدل شهوده، فلا يقبل أقل من اثنين.
وفيه: جواز الالتقاط، وإن لم يشهد، وأن نفقته إذا لم يعرف في بيت المال وأن ولاءه لملتقطه. وفيه: أن اللقيط حر، وقال قوم: إنه عبد، وممن قال: إنه حر، علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم، والشعبي.
2662 حدثنا ابن سلام قال أخبرنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمان بن أبي بكرة عن أبيه قال أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا ثم قال من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه.
قال الكرماني: قال شارح التراجم: وجه مطابقة الحديث للترجمة أنه، صلى الله عليه وسلم، أرشد إلى أن التزكية كيف تكون، فلو لم تكن مقيدة لما أرشد إليها، لكن للمانع أن يقول: إنها مقيدة مع تزكية أخرى لا بمفردها. وليس في الحديث ما يدل على أحد الطريقين. انتهى. قلت: قوله: إنها مقيدة مع تزكية أخرى، غير مسلم والمنع بطريق ما ذكره غير صحيح، لأن الحديث يدل على أنه، صلى الله عليه وسلم، اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد، ولا يتغالى ولم يعب صلى الله عليه وسلم عليه إلا الإغراق والغلو في المدح، وبهذا يرد قول من قال: ليس في الخبر: إن تزكية الواحد للواحد كافية. حيث يحتاج إلى التزكية البتة، وكذا فيه رد لقول من قال: استدلال البخاري على الترجمة بحديث أبي بكرة ضعيف، لأنه ضعف ما هو صحيح، لأنه علل بقوله: فإن غايته أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر تزكية الرجل أخاه إذا اقتصد ولم يغل، وتضعيفة بهذا هو عين تصحيح وجه المطابقة بين الحديث والترجمة لما ذكرناه، وكل هذه التعسفات مع الرد على البخاري بما ذكر لأجل الرد على أبي حنيفة حيث احتج بهذا الحديث على اكتفائه في التزكية بواحد، فافهم.
ثم رجال الحديث المذكور خمسة: الأول: محمد بن سلام، وفي بعض النسخ اسمه واسم أبيه. الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري. الثالث: خالد