عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٢٨٠
وذكره هنا مترجما بالمعنى، لأن قوله: (أدها إليه) بعد الاستنفاق، يدل على وجوب الرد وعلى أنه لا يملكها، فيكون كالوديعة عنده، والجواب الآخر: أنه أسقط هذا اللفظ من حيث اللفظ، وذكره ضمنا من حيث المعنى، لأن قوله: (فإن جاء صاحبها فأدها إليه)، يدل على بقاء ملك صاحبها، خلافا لمن أباحها بعد الحول بلا ضمان، والجوابان متقاربان، وقد مر الكلام فيه مستقصى. ثم إنه يستدل من قوله: (لأنها وديعة عنده) على أنها إذا تلفت من غير تقصير منه فإنه لا ضمان عليه، ويدل على هذا اختياره، كما هو قول جماعة من السلف. فإن قلت: كيف يتصور الأداء بعد الأستنفاق؟ قلت: بدلها يقوم مقامها، وكيفية ذلك مع ما قالوا فيه قد مضت محررة. قوله: (حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه)، شك من الراوي، والوجنتان تثنية: وجنة، وهي ما ارتفع من الخدين، وفيها أربع لغات: بالواو وبالهمزة وبالفتح فيهما وبالكسر أيضا. والله أعلم.
01 ((باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها من لا يستحق)) أي: هذا باب يذكر فيه: هل يأخذ الملتقط اللقطة ولا يدعها حال كونها تضيع بتركه إياها؟ قوله: (حتى لا يأخذها)، كذا هو بحرف: لا، بعد: حتى، في رواية الأكثرين، وفي رواية ابن شبويه: حتى يأخذها، بدون حرف: لا. وقال بعضهم: وأظن الواو سقطت من قبل: حتى، والمعنى: لا يدعها تضيع ولا يدعها يأخذها من لا يستحق. قلت: لا يحتاج إلى هذا الظن، ولا إلى تقدير الواو، لأن المعنى صحيح والتقدير لا يتركها ضائعة، ينتهي إلى أخذها من لا يستحق، وكلمة: هل، هنا ليست على معنى الاستفهام، بل هي بمعنى: قد، للتحقيق، والمعنى: باب يذكر فيه قد يأخذ اللقطة... إلى آخره، ولهذا لا يحتاج إلى جواب. وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره أخذ اللقطة. روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره أخذها، والآبق فإن أخذ ذلك وضاعت وأبق من غير تضييعه لم يضمن، وكره أحمد أخذها أيضا، ومن حجتهم في ذلك ما رواه الطحاوي: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبي مسلم الجذمي عن الجارود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضالة المسلم حرق النار). وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن أبي داود عن المثنى بن سعيد عن قتادة عن يزيد بن عبد الله عن أبي مسلم الجذمي عن الجارود نحوه. وأخرجه الطبراني أيضا. قلت: سليمان بن حرب شيخ البخاري وأيوب هو السختياني. وأبو مسلم الجذمي، بفتح الجيم والذال المعجمة: نسبة إلى جذيمة عبد القيس، لا يعرف اسمه، والجارود هو ابن المعلى العبدي، واسمه: بشر، والجارود: لقب به لأنه أغار في الجاهلية على بكر بن وائل فأصابهم وجردهم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في وفد عبد القيس، فأسلم وكان نصرانيا، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأكرمه وقربه. والضالة: هي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره، يقال: ضل الصبي، إذا ضاع، وضل عن الطريق إذا حار وقد: مر الكلام فيه مرة. قوله: (حرق النار)، بفتحتين وقد تسكن الراء، وحرق النار لهيبها، والمعنى: أن ضالة المسلم إذا أخذها إنسان ليتملكها إدته إلى النار، وهذا تشبيه بليغ. وحرف التشبيه محذوف لأجل المبالغة، وهو من تشبيه المحسوس بالمحسوس. وقال الحسن البصري والنخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول، وأحمد في رواية وأبو يوسف ومحمد: لا يحرم أخذ الضوال، وعن الشافعي في قول وأحمد في رواية: ندب تركها، وعن الشافعي في قول: يجب رفعها، وقال ابن حزم: قال أبو حنيفة ومالك: كلا الأمرين، مباح، والأفضل أخذها. وقال الشافعي مرة: أخذها أفضل، ومرة قال: الورع تركها. وأجاب الطحاوي عن الحديث المذكور أنه صلى الله عليه وسلم أراد أخذها لغير التعريف، وقد بين ذلك ما روي عن الجارود أيضا أنه قال: قد كنا أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على إبل عجاف، فقلنا: يا رسول الله إنا قد نمر بالحرف فنجد إبلا فنركبها؟ فقال: إن ضالة المسلم حرق النار، وكان سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذها لأن يركبوها، لا لأن يعرفوها، فأجابهم: بأن قال: ضالة المسلم حرق النار، أي: إن ضالة المسلم حكمها أن تحفظ على صاحبها حتى تؤدى إلى صاحبها، لا لأن ينتفع بها لركوب، ولا لغير ذلك، فبان بذلك معنى الحديث.
(٢٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 ... » »»