فاغتاب أحدهما ولم ينكر عليه الآخر، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم). وعن جابر رواه البزار من رواية عطاء عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم). وعن سمرة أيضا من رواية الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم). وعن أبي زيد الأنصاري رواه ابن عدي من حديث أبي قلابة عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)، وعن أبي الدرداء ذكره النسائي عند ذكر طرق حديث عائشة في الاختلاف على ليث، ولما روى الطحاوي حديث أبي رافع وعائشة وثوبان وشداد بن أوس وأبي هريرة، رضي الله تعالى عنهم، قال: فذهب قوم إلى أن الحجامة تفطر الصائم حاجما كان أو محجوما، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار أي: أحاديث هؤلاء المذكورين. قلت: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والأوزاعي ومسروقا ومحمد بن سيرين وأحمد بن حنبل وإسحاق، فإنهم قالوا: الحجامة لا تفطر مطلقا. ثم قال الطحاوي: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تفطر الحجامة حاجما أو محجوما. قلت: أراد بهم: عطاء بن يسار والقاسم بن محمد وعكرمة وزيد بن أسلم وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبا العالية وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا ومالكا والشافعي وأصحابه إلا ابن المنذر فإنهم قالوا: الحجامة لا تفطر، ثم قال: وممن روينا عنه ذلك من الصحابة سعد بن أبي وقاص والحسين بن علي وعبد الله بن مسعود وابن زيد وابن عباس وزيد بن أرقم وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة، رضي الله تعالى عنهم.
ثم أجاب الطحاوي عن الأحاديث المذكورة بأنه: ليس فيها ما يدل على أن الفطر المذكور فيها كان لأجل الحجامة، بل إنما ذلك كان لمعنى آخر، وهو: أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان رجلا، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم ما قال، وكذا قال الشافعي، رحمه الله، فحمل: (أفطر الحاجم والمحجوم)، بالغيبة على سقوط أجر الصوم، وجعل نظير ذلك أن بعض الصحابة قال للمتكلم يوم الجمعة: لا جمعة لك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: صدق، ولم يأمره بالإعادة، فدل على أن ذلك محمول على إسقاط الأجر. قال الطحاوي: وليس إفطارهما ذلك كالإفطار بالأكل والشرب والجماع، ولكن حبط أجرهما باغتيابهما، فصارا بذلك كالمفطرين، لا أنه إفطار يوجب عليهما القضاء، وهذا كما قيل: الكذب يفطر الصائم، ليس يراد به الفطر الذي يوجب القضاء، إنما هو على حبوط الأجر. قال: وهذا كما يقول: فسق القائم، ليس معناه أنه فسق لأجل قيامه، ولكنه فسق لمعنى آخر غير القيام، ثم روى بإسناده عن أبي سعيد الخدري، قال: إنا كرهنا الحجامة للصائم من أحل الضعف، وروى أيضا عن حميد قال سأل ثابتا البناني أنس بن مالك هل كنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا إلا من أجل الضعف وروي أيضا عن جابر بن أبي جعفر وسالم عن سعيد ومغيرة عن إبراهيم وليث عن مجاهد عن ابن عباس، قال: إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف. انتهى.
وقد ذكرت وجوه أخرى. منها ما قيل: إن فيها التعرض للإفطار، أما المحجوم فللضعف وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم، وهذا كما يقال للرجل يتعرض للهلاك: قد هلك فلان، وإن كان سالما، وكقوله: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، يريد أنه قد تعرض للذبح لا أنه ذبح حقيقة. ومنها ما قيل: إنه صلى الله عليه وسلم مر بهما مساء، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم)، فكأنه عذرهما بهذا، أو كانا أمسيا ودخلا في وقت الإفطار، قاله الخطابي. ومنها ما قيل: إن هذا على التغليظ لهما، كقوله: (من صام الدهر لا صام ولا أفطر). ومنها ما قيل: إن معناه: جاز لهما أن يفطرا كقوله: أحصد الزرع، إذا حان أن يحصد. ومنها ما قيل: إن أحاديث الحاجم والمحجوم منسوخة بحديث ابن عباس الذي يأتي عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وقال لي عياش قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا يونس عن الحسن مثله قيل له عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ثم قال الله أعلم عياش، بتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة: ابن الوليد الرقام القطان، أبو الوليد البصري، وعبد الأعلى ابن عبد الأعلى الشامي القرشي البصري، ويونس هو بن عبيد بن دينار البصري التابعي، يروي عن الحسن البصري التابعي والإسناد كله بصريون.
قوله: (مثله)، أي: مثل ما ذكر من (أفطر الحاجم والمحجوم)، وقد أخرجه البخاري في (تاريخه) والبيهقي من طريقه، قال: حدثني عياش... فذكره. قوله: (قيل له) أي: الحسن (عن النبي صلى الله عليه وسلم) الذي تحدث به من أفطر