عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ٢٩
أبو هريرة عن محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم،). فذكر أحاديث منها، وقال: (بينما رجل يسوق بدنة مقلدة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك إركبها، فقال: بدنة يا رسول الله، قال: ويلك إركبها، ويلك إركبها). وفي رواية لأحمد من حديث عبد الرحمن بن إسحاق والثوري، كلاهما عن أبي الزناد، ومن طريق عجلان (عن أبي هريرة قال: اركبها ويحك، قال: إنها بدنة. قال: أركبها ويحك). وزاد أبو يعلى من رواية الحسن: (فركبها) وللبخاري من طريق عكرمة عن أبي هريرة: (فلقد رأيته راكبا يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها). قوله: (ويلك) قال القرطبي: قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، ولهذا قال ابن عبد البر وابن العربي: وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا. قال: ولولا أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة، قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها، فزجره عن ذلك، فعلى الحالتين هي إنشاء. ورجحه عياض وغيره، وقالوا: والأمر ههنا وإن قلنا إنه للإرشاد. لكنه استحق الذم بتوقفه عن امتثال الأمر، والذي يظهر أنه ما ترك عنادا، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم، وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه، فتوقف، فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال. وقيل: لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد، وويل: كلمة تقال لمن وقع في هلكة، فالمعنى: أشرفت على الهلكة فاركب، فعلى هذا هي إخبار، وقيل: هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها كقولهم: لا أم لك، ويقويه ما تقدم في رواية أحمد: ويحك بدل ويلك. وقال الهروي: ويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها. وفي (التوضيح): ويلك مخرجة مخرج الدعاء عليه من غير قصد إذ أبى من ركوبها أول مرة. وقال له: إنها بدنة، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك فخاف أن لا يكون علمه، فكأنه قال له: الويل لك في مراجعتك إياي فيما لا نعرف وأعرف، وكان الأصمعي يقول: ويل، كلمة عذاب، و: ويح، كلمة رحمة. وقال سيبويه: ويح زجر لمن أشرف على هلكة. وفي الحديث (ويل واد في جهنم). قوله: (في الثالثة) أي: في المرة الثالثة. قوله: (أو في الثانية) أي: أو قال ذلك في المرة الثانية، وهذا شك من الراوي.
ذكر ما يستفاد منه فيه: جواز ركوب البدنة المهداة سواء كانت واجبة أو متطوعا بها، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفصل في قوله ولا استفصل صاحبها عن ذلك، فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك، ويوضح هذا ما رواه أحمد من حديث علي، رضي الله تعالى عنه، أنه سئل: هل يركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يمر بالرجال يمشون فيأمرهم بركوب هديهم.
وقد اختلفوا في هذا على أقوال:
الأول: الجواز مطلقا، وبه قال عروة بن الزبير ونسبه ابن المنذر إلى أحمد وإسحاق، وبه قالت الظاهرية، وهو الذي جزم به النووي في (الروضة) تبعا لأصله في الضحايا ونقله في (شرح المهذب) عن القفال والماوري.
الثاني: ما قاله النووي، ونقل عنه عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما مقيدة بالحاجة، وقال الروياني: تجويزه بغير الحاجة مخالفة النص، وهو الذي نقله الترمذي عن الشافعي، حيث قال: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ركوب البدنة إذا احتاج إلى ظهرها، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهذا هو المنقول عن جماعة من التابعين: أنها لا تركب إلا عند الاضطرار إلى ذلك، وهو المنقول عن الشعبي والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، فلذلك قيده صاحب (الهداية) من أصحابنا بالاضطرار إلى ذلك.
الثالث: ما ذكره ابن عبد البر من كراهة الركوب من غير حاجة، ونقله عن الشافعي ومالك.
الرابع: ما قاله ابن العربي: يركب للضرورة فإذا استراح نزل، يدل عليه ما رواه مسلم من حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، أنه سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إركبها بالمعروف إذا لجئت إليها حتى تجد ظهرا، فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها. وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي، قال: يركبها إذا أعيي قدر ما يستريح على ظهرها.
الخامس: المنع مطلقا، نقله ابن العربي عن أبي حنيفة، وشنع عليه بغير وجه. قال بعضهم: لأن مذهبه هو الذي ذكره الطحاوي وغيره: الجواز بغير الحاجة إلا أنه قال: إن وقع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه، وقيل: ضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي الواجب كالنذر. قلت: الذي نقله الطحاوي وغيره: أن مذهب أبي حنيفة ما ذكره صاحب (الهداية) وقد ذكرناه.
السادس: وجوب الركوب، نقله
(٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 ... » »»