عمدة القاري - العيني - ج ١٠ - الصفحة ١٥٣
المحاربي عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * (البقرة: 691). قال إذا كان أو، أو بأية أخذت أجزأك. قال: وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاووس والجنيد وحميد الأعرج والنخعي والضحاك نحو ذاك، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور إلى أن التخيير لا يكون إلا في الضرورة، فإن فعل ذلك من غير ضرورة فعليه دم، وفي (صحيح مسلم) رواية عبد الكريم صريحة في التخيير حيث قال: أي ذلك فعلت أجزأك! كذا رواية أبي داود التي فيها: إن شئت وإن شئت، ووافقها رواية عبد الوارث عن أبي نجيح، أخرجها مسدد في (مسنده) ومن طريقه الطبراني، لكن رواية عبد الله بن مغفل التي تأتي عن قريب تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك. ولفظه، (قال: أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصم أو أطعم). ولأبي داود في رواية أخرى: (أمعك دم؟ قال: لا. قال: فإن شئت فصم)، ونحوه: للطبراني من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني، وزاد بعد قول: (ما أجد هديا. قال: فأطعم! قال: ما أجد؟ قال: صم)، ولهذا قال أبو عوانة في (صحيحه): فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم، يعني ولا يطعم، لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبراني وغيره عن سعيد بن جبير، قال: النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم، والدراهم طعاما فتصدق به، أو صام لكل نصف صاع يوما. أخرجه من طريق الأعمش عنه، قال: فذكرته لإبراهيم، فقال: سمعت علقمة مثله، فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين، وقد جمع بينهما بأوجه: منها ما قال: أبو عمر: إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه، ومنها ما قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي، بل المراد به أنه استخبره: هل معه هدي أو لا؟ فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلمه أنه مخير بينهما. ومنها ما قاله بعضهم: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في حلق رأسه بسبب أذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الإجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بوحي غير متلو، فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصيام، فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه، فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه، ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله ابن مغفل حيث قال: (أتجد شاة؟ قال: لا، فنزلت هذه الآية: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * (البقرة: 691). فقال: صم ثلاثة أيام أو أطعم). وفي رواية عطاء الخراساني، قال: (صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين. قال: وكن قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به). ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب. فإن قلت: سياق الآية يشعر بأن يقدم الصيام على غيره؟ قلت: ليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره، بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاها بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح والإطعام.
ومنها: أن الصوم ثلاثة أيام، وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي عمران حدثنا عبد الله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن في قوله: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * (البقرة: 691). قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين لكل مسكين مكوكان مكوك من تمر ومكوك من بر، والنسك شاة، وقال قتادة عن الحسن وعكرمة. في قوله: * (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * (البقرة: 691). قال: إطعام عشرة مساكين، وقال ابن كثير في (تفسيره): وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر، لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة: (فصيام ثلاثة أيام لا عشرة، وقال أبو عمر في (الاستذكار): روي عن الحسن وعكرمة ونافع صوم عشرة أيام، قال: ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك.
ومنها: أن الإطعام لستة مساكين، ولا يجزئ أقل من ستة، وهو قول الجمهور، وحكى عن أبي حنيفة أنه: يجوز أن يدفع إلى مسكين واحد، والواجب في الإطعام لكل لمسكين نصف صاع من أي شيء كان المخرج في الكفارة قمحا أو شعيرا أو تمرا، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وداود، وحكي عن الثوري وأبي حنيفة تخصيص ذلك بالقمح، وأن الواجب من الشعير والتمر صاع لكل مسكين. وحكى ابن عبد البر عن أبي حنيفة وأصحابه كقول مالك والشافعي، وعند أحمد في رواية: إن الواجب في الإطعام لكل مسكين مد من قمح أو مدان من تمر أو شعير.
(١٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 148 149 150 151 152 153 154 155 156 157 158 ... » »»