فتقدير الكلام لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان فإن قيل فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه ونحوه لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد أن يقدر أعم العام وأجيب بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا ووصفا كما إذا قلت ما رأيت إلا زيدا كان تقديره ما رأيت رجلا أو أحدا إلا زيدا لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا فههنا تقديره لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة قوله ' المسجد الحرام ' أي المحرم وقال بعضهم هو كقولهم الكتاب بمعنى المكتوب (قلت) هذا القياس غير صحيح لأن الكتاب على وزن فعال بكسر الفاء والحرام فعال بالفتح فكيف يقاس عليه وإنما الحرام اسم للشيء المحرم وفي إعراب المسجد وجهان الأول بالجر على أنه بدل من الثلاثة والثاني بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى وقال بعضهم ويجوز الرفع على الاستئناف (قلت) الاستئناف في الحقيقة جواب سؤال مقدر ولئن سلمنا له ذلك فيؤول الأمر في الحقيقة إلى أن يكون الرفع فيه على أنه خبر مبتدأ محذوف كما ذكرناه قوله ' ومسجد الرسول ' الألف واللام فيه للعهد عن سيدنا محمد (فإن قلت) ما نكتة العدول عن قوله ' ومسجدي ' بالإضافة إليه (قلت) الإشارة إلى التعظيم على أنه يجوز أن يكون هذا من تصرف بعض الرواة والدليل عليه قوله في حديث أبي سعيد ' ومسجدي ' وسيأتي عن قريب قوله ' ومسجد الأقصى ' بإضافة الموصوف إلى الصفة وفيه خلاف فجوزه الكوفيون كما في قوله تعالى * (وما كنت بجانب الغربي) * وأوله البصريون بإضمار المكان أي بجانب المكان الغربي ومسجد البلد الحرام ومسجد المكان الأقصى وسمي المسجد الأقصى لبعده عن المسجد الحرام إما في المسافة أو في الزمان وقد ورد في الحديث أنه كان بينهما أربعون سنة (وقد استشكل) من حيث أن بين آدم وداود عليهما الصلاة والسلام أضعاف ذلك من الزمن (وأجيب) بأن الملائكة وضعتهما أولا وبينهما في الوضع أربعون سنة وأن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام جددا بنيان المسجد الأقصى كما جدد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام وقال الزمخشري المسجد الأقصى بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة لأنه بعيد من مكة وبيت المقدس أبعد منه وقيل لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعا وقربا إلى السماء يقال قصى المكان يقصو قصوا بعد فهو قصي ويقال فلان بالمكان الأقصى والناحية القصوى (ذكر ما يستفاد منه) فيه فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن المسجد الحرام قبلة الناس وإليه حجهم ومسجد الرسول أسس على التقوى والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السالفة. وفيه أن الرحال لا تشد إلى غير هذه الثلاثة لكن اختلفوا على أي وجه فقال النووي معناه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد ما غير هذه الثلاثة ونقله عن جمهور العلماء وقال ابن بطال هذا الحديث إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة قال مالك رحمه الله من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلة فإنه يصلي في بلده إلا أن ينذر ذلك في مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس فعليه السير إليها وقال ابن بطال وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعا بذلك فمباح إن قصدها بأعمال المطي وغيره ولا يتوجه إليه الذي في هذا الحديث وقيل من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة للصلاة أو غيرها لم يلزمه ذلك لأنها لا فضل لبعضها على بعض فيكفي صلاته في أي مسجد كان قال النووي لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال يجب الوفاء به وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين ولا ينعقد نذره وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه في مسجد قباء لأن النبي كان يأتيه كل سبت واستدل قوم بهذا الحديث أعني حديث الباب على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك وبه قال مالك وأحمد والشافعي في البويطي واختاره أبو إسحق المروزي وقال أبو حنيفة لا يجب مطلقا وقال الشافعي في الأم يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الآخرين وقال ابن المنذر يجب إلى الحرمين وأما الأقصى فلا واستأنس بحديث جابر ' أن رجلا قال للنبي إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس قال صل ههنا ' وقال ابن التين الحجة على الشافعي
(٢٥٣)