حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله: * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * (الفجر: 22). الثالث: أن قوما أفرطوا في تأويل هذه الأحاديث حتى كاد أن تخرج إلى نوع من التحريف، ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبا مستعملا في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدا مهجورا، وأولوا في بعض وفوضوا في بعض، ونقل ذلك عن مالك.
الرابع: أن الجمهور سلكوا في هذا الباب الطريق الواضحة السالمة، وأجروا على ما ورد مؤمنين به منزهين لله تعالى عن التشبيه والكيفية، وهم: الزهري والأوزاعي وابن المبارك ومكحول وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم من أئمة الدين. ومنهم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد. قال البيهقي في (كتاب الأسماء والصفات): قرأت بخط الإمام أبي عثمان الصابوني، عقيب حديث النزول: قال الأستاذ أبو منصور يعني الجمشاذي: وقد اختلف العلماء في قوله: (ينزل الله)، فسئل أبو حنيفة فقال: بلا كيف، وقال حماد بن زيد: نزوله إقباله. وروى البيهقي في (كتاب الاعتقاد) بإسناده إلى يونس بن عبد الأعلى، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: لا يقال للأصل: لم ولا كيف، وروى بإسناده إلى الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: الأصل كتاب أو سنة أو قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الناس قلت: لا شك أن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، واا منزه عن ذلك، فما ورد من ذلك فهو من المتشابهات، فالعلماء فيه على قسمين: الأول: المفوضة: يؤمنون بها ويفوضون تأويلها إلى الله، عز وجل، مع الجزم بتنزيهه عن صفات النقصان. والثاني: المؤولة: يؤولون بها على ما يليق به بحسب المواطن، فأولوا بأن معنى: ينزل الله: ينزل ى مره أو ملائكته، وبأنه استعارة، ومعناه: التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحو ذلك، وقال الخطابي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، مذهب السلف فيه الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقال القاضي البيضاوي، لما ثبت بالقواطع العقلية أنه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد دنو رحمته، وقد روي: يهبط الله من السماء العليا إلى السماء الدنيا، أي: ينتقل من مقتضى صفات الجلال التي تقتضي الأنفة من الأراذل وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام للرأفة والرحمة والعفو، ويقال: لا فرق بين المجيء والإتيان والنزول إذا أضيف إلى جسم يجوز عليه الحركة والسكون والنقلة التي هي تفريغ مكان وشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا ليق به الانتقال والحركة، كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته تعالى. فالنزول: لغة، يستعمل لمعان خمسة مختلفة: بمعنى الانتقال: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 84). و: الإعلام * (نزل به الروح الأمين) * (الشعراء: 391). أي: أعلم به الروح الأمين محمدا صلى الله عليه وسلم، وبمعنى: القول * (سأنزل مثل ما أنزل الله) * (الأنعام: 39). أي سأقول مثل ما قال، والإقبال على الشيء، وذلك مستعمل في كلامهم جار في عرفهم، يقولون: نزل فلان من مكارم الأخلاف إلى دنيها، ونزل قدر فلان عند فلان إذا انخفض، وبمعنى: نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا في خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان، أي: حكم، وذلك كله متعارف عند أهل اللغة: وإذا كانت مشتركة في المعنى وجب حمل ما وصف به الرب، جل جلاله، من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعاني، وهو: إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستيقاظ بالتذكير والتنبيه الذي يلقى في القلوب، والزواجر التي تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة. ووجدناه، تعالى، خص بالمدح المستغفرين بالأسحار، فقال تعالى: * (وبالأسحار هم يستغفرون) * (الذاريات: 81) [/ ح.
قوله: (عز وجل)، وفي بعض النسخ: (تبارك وتعالى)، وهما جملتان معترضتان بين الفعل والفاعل وظرفه: لما أسند ما لا يليق إسناده بالحقيقة إلى الله تعالى، وأتى بما يدل على التنزيه على سبيل الاعتراض. قوله: (حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وعند مسلم: (ثلث الليل الأول)، وفي لفظ: (شطر الليل أو ثلث الليل الأخير)، وههنا ست روايات: الأولى: هي التي ههنا وهي: ثلث الليل الأول. الثانية: إذا مضى الثلث الأول. الثالثة: الثلث الأول أو النصف. الرابعة: النصف. الخامسة: النصف أو الثلث الأخير. السادسة: الإطلاق، والمطلقة منها تحمل على المقيدة، والتي بحرف الشك، فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه. فإن قلت: إذا كانت كلمة: أو، للترديد بين حالين، كيف يجمع بذلك بين الروايات؟ قلت: يجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحول، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان وفي الآفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم وتأخره عنه آخرين، وقد مر الكلام فيه من وجه آخر عن قريب. فإن قلت: ما وجه التحصيص بالثلث الأخير الذي