عمدة القاري - العيني - ج ٦ - الصفحة ١٨٨
ثم استدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى بما رواه عبد الرزاق في (مصنفه)؛ أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن الحارث (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع)، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا عباد بن العوام عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث، (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة)، وروى أيضا بسند صحيح: حدثنا جرير عن منصور عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن أنه قال: قال علي، رضي الله تعالى عنه: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع). فإن قلت: قال النووي: حديث علي ضعيف متفق على ضعفه، وهو موقوف عليه بسند ضعيف منقطع؟ قلت: كأنه لم يطلع إلا على الأثر الذي فيه الحجاج بن أرطاة، ولم يطلع على طريق جرير عن منصور، فإنه سند صحيح، ولو اطلع لم يقل بما قاله، وأما قوله: متفق على ضعفه، فزيادة من عنده، ولا يدري من سلفه في ذلك، على أن أبا زيد زعم في (الأسرار): أن محمد بن الحسن قال: رواه مرفوعا معاذ وسراقة بن مالك، رضي الله تعالى عنهما. فإن قلت: في (سنن سعيد بن منصور): عن أبي هريرة أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب، رضي الله تبارك وتعالى عنه، من البحرين يسألونه عن الجمعة، فيكتب إليهم: إجمعوا حيث ما كنتم. وذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح بلفظ: جمعوا، وفي (المعرفة) أن أبا هريرة هو السائل، وحسن سنده، وروى الدارقطني عن الزهري، عن أم عبد الله الدوسية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة واجبة على أهل كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة). وزاد أبو أحمد الجرجاني: حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، وفي (المصنف): (عن مالك: كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون). وروى أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره، عن أبيه عن كعب بن مالك أنه: كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد ابن زرارة؟ قال: لأن أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون). وأخرجه أيضا ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي، وزاد: قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي (المعرفة): قال الزهري: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة ليقرئهم القرآن جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا، فكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: يريد الاثنا عشر النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له ظهيرا. وفي حديث كعب: جمع بهم أسعد وهم أربعون، وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل المدينة مع النقباء، وعن جعفر بن برقان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، إلى عدي بن عدي. وأما أهل قرية ليسوا بأهل عمود فأمر عليهم أميرا يجمع بهم. رواه البيهقي قلت: الجواب عن الأول معناه: جمعوا حيث ما كنتم من الأمصار، ألا ترى أنها لا تجوز في البراري؟ وعن الثاني: أن رواته كلهم عن الزهري متروكون، ولا يصح سماع الزهري من الدوسية. وعن الثالث: أنه ليس فيه دليل على وجوب الجمعة على أهل القرى. وعن الرابع: أن فيه محمد بن إسحاق، فقال البيهقي: الحفاظ يتوقون ما ينفرد به ابن إسحاق، وهنا قد تفرد به، والعجب منه تصحيحه هذا الحديث، والحال أنه كان يتكلم في ابن إسحاق بأنواع الكلام. فإن قلت: قال الحاكم: إنه على شرط مسلم. قلت: ليس كما قال، لأن مداره على ابن إسحاق، ولم يخرج له مسلم إلا متابعة. وعن الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بذلك ولا أقرهم عليه. وعن السادس: أنه: رأى عمر بن عبد العزيز ليس بحجة، ولئن سلمنا فليس فيه ذكر عدد، وقال عبد الحق في أحكامه: لا يصح في عدد الجمعة شيء فإن قلت: قال ابن حزم، في معرض الاستدلال لمذهبه: ومن أعظم البرهان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المدينة، وإنما هي قرى صغار متفرقة، فبنى مسجده في بني مالك بن النجار وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة ولا مصر هناك. قلت: هذا ليس بشيء من وجوه: الأول: قد صحح قول علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه الذي هو أعلم الناس بأمر المدينة: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. الثاني: أن الإمام أي موضع حل جمع. الثالث: التمصير للإمام، فأي موضع مصر.
وأما معنى حديث أبي داود فقوله: (في هزم النبيت)، الهزم بفتح الهاء وسكون الزاي بعدها ميم: موضع بالمدية، و: النبيت، بفتح النون وكسر الباء الموحدة بعدها ياء آخر الحروف وفي آخره تاء مثناة من فوق: وهي حي من اليمن. قوله: (من حرة بني بياضة)، الحرة، بفتح الحاء المهملة وتشديد
(١٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 ... » »»