هذا لورود الوعيد الشديد في ذلك. قيل: الإنكار قد يقع على ترك السنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم. قلت: الإنكار يستلزم المنكر وفاعل المنكر آثم، على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتسوية. والأصل في الأمر الوجوب إلا إذا دلت قرينة على غيره، ومع ورود الوعيد على تركها وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. وقال بعضهم: وهو ضعيف لأنه يفضي إلى أنه لا يبقى شيء مسنون لأن التأثيم إنما يحصل من ترك واجب. قلت: قول هذا القائل ضعيف، بل هو كلام الفساد لأنا لا نسلم إن حصول التأثيم منحصر على ترك الواجب، بل التأثيم يحصل أيضا عن ترك السنة، ولا سيما إذا كانت مؤكدة، ومع القوم بوجوب التسوية فتركها لا يضر صلاته لأنها خارجة عن حقيقة الصلاة، ألا ترى أن أنسا، مع إنكاره عليهم، لم يأمرهم بإعادة الصلاة، ولا يعتبر ما ذهب إليه ابن حزم من بطلان صلاته مستدلا بما صح عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه ضرب قدم أبي عثمان النهدي لإقامة الصف، وبما صح عن سويد ابن غفلة قال: كان بلال يسوي مناكبنا ويضرب أقدامنا في الصلاة، فقال ابن حزم: ما كان عمر وبلال يضربان أحدا على ترك غير الواجب. قال بعضهم: فيه نظر لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة قلت: في هذا النظر نظر، لأن قائله قد ناقض في قوله حيث قال، فيما مر عن قريب: التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب، فإذا لم يكن تارك السنة آثما فكيف يستحق التعزير؟ بل الظاهر أن ضربهما كان لترك الأمر الذي ظاهره الوجوب، ولاستحقاق الوعيد الشديد في الترك.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: معاذ، بضم الميم: ابن أسد أبو عبد الله المروزي نزل البصرة. الثاني: الفضل بن موسى المروزي السيناني، بكسر السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وتخفيف النون وبعد الألف نون أخرى: نسبة إلى سينان، قرية من قرى مرو، مات سنة إحدى أو اثنتين وتسعين ومائة. الثالث: سعيد بن عبيد الطائي أبو الهذيل الكوفي. الرابع: بشير، بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء: ابن يسار، بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة وبعد الألف راء: المدني مولى الأنصار. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف أسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: بشير المذكور ليس له في الكتب الستة عن أنس غير هذا الحديث. والحديث أخرجه أيضا من أفراد البخاري. وفيه: أن رواته ما بين مروزي وكوفي ومدني، وتابع الفضل أبو معاوية وإسحاق الأزرقي عن سعيد، كما أخرجه الإسماعيلي عنهما.
ذكر معناه: قوله: (أنه قدم المدينة)، أي: من بصرة. قوله: (ما أنكرت)، أي: أي شيء أنكرت منا منذ يوم عهدت؟ وقد علمت أن: منذ ومذ، حرفا جر، وهو الصحيح. وقيل: إسمان مضافان، فيكون بمعنى: من، إن كان الزمان ماضيا وبمعنى: في، إن كان حاضرا، وبمعنى: من وإلى جميعا، إن كان معدودا نحو:
ما رأيته منذ يوم الخميس أو منذ يومنا أو عامنا أو منذ ثلاثة أيام، والمعنى ههنا: ما أنكرت منا من يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والمذكور في المتن رواية الكشميهني والمستملي، وفي رواية غيرهما: (ما أنكرت منذ يوم عهدت؟) بغير لفظ منا. قوله: (ما أنكرت شيئا...) إلى آخره، يدل على أن إنكاره على ترك الواجب أو السنة المؤكدة، فلذلك بوب البخاري بالترجمة المذكورة.
وقال عقبة بن عبيد عن بشير بن يسار قدم علينا أنس بن مالك المدينة بهذا عقبة، بضم العين المهملة وسكون القاف: أخو سعيد بن عبيد، راوي الإسناد الذي قبله، وليس للبخاري عن عقبة إلا هذا المعلق، ويكنى عقبة بأبي الرحال، بفتح الراء وتشديد الحاء المهملة، وقد وصل هذا المعلق أبو نعيم الحافظ عن أبي بكر بن مالك عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، قال: حدثنا أبو معاوية ويحيى بن سعيد، قالا: حدثنا عقبة بن عبيد فذكره ووصله أحمد أيضا في مسنده عن يحيى القطان عن عقبة بن عبيد الطائي، حدثني بشير بن يسار، قال: (جاء أنس إلى المدينة فقلنا: ما أنكرت منا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أنكرت منكم شيئا غير أنكم لا تقيمون الصفوف). وهذه المقدمة لأنس غير المقدمة التي تقدم ذكرها في: باب وقت العصر، فإن ظاهر الحديث فيها أنه أنكر تأخير الظهر إلى أول وقت العصر، وهذا الإنكار أيضا غير الإنكار الذي تقدم ذكره في: باب تضييع الصلاة عن وقتها، حيث قال: لا أعرف شيئا مما كان