المنتخب من كتب ابن تيمية - الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف - الصفحة ٢٠٧
... فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء؛ لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدى عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات؛ فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.
فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة؛ كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح - كما تقدم - بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن؛ إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه؛ فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله (تسليما إلى بيانها...
ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم؛ فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل، والله أعلم.
(٢٠٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 202 203 204 205 206 207 208 209 210 211 212 ... » »»