فيه، ولا شك أن لهذا الصف المتقدم طلائع مبرزين، ولقد كان فقيدنا، بحق وجدارة، متألقا بين هذه الطلائع العزيزة في عصرنا هذا، بما أعطي من حافظة ثاقبة، وصبر عظيم، وصدق عزيمة، وعلو همة.. وإذا كانت تلك الخصال متوفرة لا ريب لدى نظرائه من المحققين الكبار، فلقد زان فقيدنا خصاله بخصائص قل أن تجد أخواتها عند غيره...
فذلك الصفاء المتميز الذي كان يفيض من بين جوانحه إنما هو سيماء الصالحين من أبناء قروننا الأولى!
وذلك التواضع الذي يدهش له جليسه، أين تجد نظيره إلا لدى من خشع قلبه لله تعالى حقا، فلم يتسلق إلى نفسه شئ من مسحات غرور أو كبرياء، ولا مثقال ذرة! إنه تواضع الطبع والسجية، لا تواضع التطبع والتكلف والمداراة.
وخصلة ثالثة، لو قلت إنك لا تجدها عند غيره، فقد لا تعدو الصدق والأمانة، ولا تقدح أحدا بغير حق، تلك هي: عطاؤه الذي لا يعرف حدا إلا جهده وما يملك، إنه العالم الذي لا يكتمك علما ينفعك، ولا يخفي عليك فائدة وجدها، باسط كنوزه بين أيدي طلابها والمعنيين بها، إنه يعطيك حتى أعماله التحقيقية وبحوثه الجاهزة متى وجد لديك اهتماما تشفيه، أو تصب فيه، أو تلتقي معه.. يعطيكها كاملة، فتكمل بها عملك، وإن راقت لك اخترتها كلها لتنشرها باسمك أنت، يعطيك وهو يعلم ذلك، بل ربما أعطاك لأجل ذلك، ولقد أعطى على هذه الطريقة كتبا، وليس فوائد محدودة فقط، ولقد حفظ عليه ذلك من حفظ فذكر له حقه أو بعض حقه في محله، فيما تغافل وغض الطرف، وقد نجد له عذرا أنه لو ذكر ذلك الحق كاملا فسوف لا يبقي لنفسه شيئا!!