وإنما يحدثه رجال لهم حيال الأحداث مواقف وميول، فهو لم يسمع في الحقيقة حدثا مجردا، وإنما سمع الحدث ممزوجا له أو مضافا إليه انفعالات الناقلين...
وأيضا فإن المؤرخ نفسه هو واحد من أولئك البشر، يعيش في عصر من الأعصار.. وللبشر ميول، ولكل عصر لونه ونغماته التي ميزته عن غيره من العصور، فهو ينفر من كل لون ونغمة لا تنسجم معها.
وفرق بين رجل يعيش فكرته لنفسه ولأصحابه الذين يتابعونه ويوافقونه، وبين آخر يكتب فكرته لتكون بين أيدي الناس، كل الناس، علمائهم وعامتهم، فإذا كان الأول قد يجد نفسه في مأمن ومعزل عن الرقباء، فإن الثاني يرى عيون الناس وكأنها ترصد أفكاره وتحصي عليه حتى ما لم يرد بحسبانه! فهي لا تكتفي بقراءة ما سطره على الورق، بل تتعدى إلى ما وراء ذلك لتقرأ دوافعه وميوله أيضا، لتصدر أحكامها عليه بحق وبغير حق.
وحين يكون عصر من العصور قاسيا في مواجهة النغمات التي لا توافق نغماته، فإنما جاءت قسوته من أناسه، لا من أرضه ولا سمائه..
ففي حال كهذه هل يبعد أن يكون المؤرخ مسوقا من حيث يدري أو لا يدري، ومن حيث يريد أو لا يريد لمجاراة تلك النغمات، أو مداراتها؟
إنه عندئذ سوف يقطع من الحقيقة التاريخية أجزاء مساوية لمقدار ذلك الانسياق.
ولعل هذا هو الأقل الأخطار الثلاثة التي قد تتعرض لها الحقيقة التاريخية...
أما الخطر الثاني: فيتمثل في الانسياق التام لنغمات العصر وأهواء أهله، والسير مع تياره الجارف الذي سيجرف معه أهم الحقائق التاريخية التي تعاكس اتجاه سيره.
وأما الخطر الثالث:
فهو أن يكون المؤرخ نفسه من أصحاب الأهواء