شبهات وردود - السيد سامي البدري - ج ٢ - الصفحة ١٥٩
بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكل الأرقام والشواهد في سيرة أصحاب هذا الاتجاه تدل بصورة لا تقبل الشك على انه لم يكن يؤمن بالشورى، إذ ان أبا بكر حين اشتد به المرض عهد إلى عمر وولاه على الأمة، وسار عمر على المنهج نفسه حين عين ستة يختارون من بينهم واحدا وكان يقول " لو كان سالم حيا ما جعلتها شورى " (1).
ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد قرر ان يجعل من جيل المهاجرين والأنصار قيما على الدعوة من بعده، لتحتم عليه ان يعبئ هذا الجيل تعبئة رسالية وفكرية واسعة تجعله قادرا على مواجهة المشكلات الفكرية التي تواجهها الدعوة في حالة انفتاحها على شعوب متعددة وأراضي جديدة.
ولكننا لا نجد أثرا لذلك الإعداد، والمعروف عن الصحابة انهم كانوا يتحاشون من ابتداء النبي (صلى الله عليه وآله) بالسؤال، بل امسكوا عن تدوين آثار الرسول (صلى الله عليه وآله) وسننه على رغم أنها المصدر الثاني من مصادر الإسلام، وكون التدوين هو الأسلوب الوحيد لحفظها (2).

(١) مرت مصادر ذلك في قصة الشورى المبحوثة في هذا الكتاب.
(٢) أقول بل رأينا الخلافة تنهى عن نشر السنة النبوية وتأمر بإحراق ما دونه الصحابة.
اما مسألة النهي فتوضحه الأخبار الآتية: روى الذهبي ان ابا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: " انكم تحدثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه " تذكرة الحفاظ بترجمة أبي بكر ج: ٣ - ٢. وروى أيضا عن قرظة بن كعب انه قال: " لما سيرنا عمر إلى العراق مشى معنا عمر إلى صرار، ثم قال: أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا: أردت ان تشيعنا وتكرمنا، قال: ان مع ذلك لحاجة، انكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وانا شريككم، قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله ".
تذكرة الحفاظ ح ١: ٤ - ٥ وجامع بيان العلم لابن عبد البر باب ذكر من ذم الاكثار من الحديث دون التفهم له ٢: ١٤٧. وكان في الصحابة مثل قرظة بن كعب ممن تابعوا سنة الخلفاء وامتنعوا عن نشر سنة الرسول نظير عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص فقد روى الدارمي في باب من هاب الفتيا بكتاب العلم من سننه ١: ٨٤ - ٨٥. عن الشعبي قال: جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله. وفي رواية أخرى عنه، قال قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصف فما سمعته يحدث عن رسول الله شيئا الا هذا الحديث. وروي عن السائب بن يزيد، قال: خرجت مع سعد - ابن أبي وقاص - إلى مكة فما سمعته يحدث حديثا عن رسول الله حتى رجعنا إلى المدينة. وكان في الصحابة من خالف سنة الخلفاء في نهيهم عن نشر الحديث النبوي وأصر على رواية سنة الرسول وتحمل في سبيل ذلك الارهاق والأذى. روى الذهبي " ان عمر بن الخطاب حبس ثلاثة: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: أكثرتم الحديث عن رسول الله " تذكرة الحفاظ ج ١: ٧ ترجمة عمر. وروى الدارمي: " ان ابا ذر كان جالسا عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه اليه، فقال أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت اني انفذ كلمة سمعت من رسول الله قبل ان تجيزوا علي لأنفدتها " سنن الدارمي ١: ١٣٢ وطبقات ابن سعد ٢: ٣٥٤ بترجمة أبي ذر، واختصرها البخاري وأوردها في صحيحه ١: ١٦١ باب العلم قبل القول، ومعنى أجاز على الجريح: اجهز عليه. وللمزيد من هذه الاخبار انظر معالم المدرستين ج ٢ ط ٤: ٤٧ - ٥١.
اما مسألة إحراق مدونات الصحابة في الحديث فتوضحه الاخبار التالية: روى الذهبي في تذكرة الحفاظ ١: ٥ عن عائشة " إن ابا بكر جمع خمسمائة من حديث النبي ودعا بنار فأحرقها ". وروى الخطيب البغدادي في كتابه تقييد العلم: ٥٢ ط مصر ١٩٧٤ بسنده إلى القاسم بن محمد " ان عمر بن الخطاب بلغه انه قد ظهر في أيدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها، وقال: أيها الناس انه قد بلغني انه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها فلا يبقين أحد عنده كتاب الا اتاني به فأرى فيه رأيي، قال فظنوا انه يريد ان ينظر فيها ويقومها على امر لا يكون فيه اختلاف، فاتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب ". وفي طبقات ابن سعد ٥: ١٨٨ " قال عبد الله بن العلاء: سألت القاسم يملي علي أحاديث، فقال: ان الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس ان يأتوه بها فلما اتوه بها امر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب، فمنعني القاسم يومئذ ان اكتب حديثا ". وروى الخطيب عن سفيان بن عينة عن عمرو عن يحيى بن جعدة " ان عمر بن الخطاب أراد ان يكتب السنة ثم بدا له ان لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده منها شئ فليمحه ". تقييد العلم: ٥٣، جامع بيان العلم ١: ٦٥. وروى الخطيب أيضا عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال:
" جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبي، فاستأذنا على عبد الله (بن مسعود) فدخلنا عليه، قال فدفعنا اليه الصحيفة، قال فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء فقلنا له: يا ابا عبد الرحمن انظر فيها فان فيها أحاديث حسانا، قال فجعل يميثها فيها ويقول:
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه ". (وماث يميث ميثا أذاب الملح في الماء). وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: " جاء رجل من أهل الشام إلى عبد الله بن مسعود ومعه صحيفة، فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه، فقال: يا ابا عبد الرحمن الا تنظر ما في هذه الصحفية من كلام أخيك أبي الدرداء وقصص من قصصه، فاخذ الصحيفة فجعل يقرأ فيها وينظر حتى اتى منزله فقال يا جارية آتيني بالإجانة مملوءة ماء، فجاءت به فجعل يدلكها ويقول: (ألم تلك آيات الكتاب المبين... نحن نقص عليك أحسن القصص) أ قصصا أحسن من قصص الله تريدون أو حديثا أحسن من حديث الله تريدون ". تقييد العلم: 54.
(١٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 164 ... » »»
الفهرست