نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، إلى أن حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف ثم رأيت إن ترك ذلك لا يجدي نفعا فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها وعمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ".
أما موقف الزحف المخيف من التراث الفكري، فكان أشد وأنكى فقد أمر بتلك التلال الفكرية والذخائر النفيسة من كتب بغداد فبنى منها جسرا على نهر دجلة اجتازه جنوده وما تبقى أحرق حرقا، فدمرت معها ثقافة ستة قرون كاملة جمعت في بغداد سواء في ذلك خزائن الكتب العامة والخاصة، فأحرقوا جانبا منها وطرحوا بعضها الآخر في نهر دجلة فسد مجراه، وزعم بعض المؤرخين أن المغول أو التتر فعلوا ذلك انتقاما مما فعله المسلمون في أول الفتح العربي بكتب الفرس وعلومهم... وذهب آخرون أن هولاكو ابتنى بتلك الكتب إسطبلات الخيول وطاولات المعالف عوضا عن الطين، فقد أباد مكتبات بغداد وأتلفها عن بكرة أبيها كمكتبة بيت الحكمة، ومكتبة المدرسة النظامية، ومكتبة المدرس المستنصرية، وخزانة الدار الخليفية وغيرها من مكتبات الأمراء والوزراء والأعيان وأرباب المحابر.
وهنا يقف شاعرها تقي الدين إسماعيل بن أبي اليسر ويسيل دموعه من مآقيها في قصيدة طويلة يشعر من فيها مشاهد الزحف المخيف وصوره المريعة فيقول:
لسائل الدمع عن بغداد أخبار * فما وقوفك والأحباب قد ساروا