ولقد امتد عصر الإمام الصادق - عليه السلام - من آخر خلافة عبد الملك بن مروان إلى وسط خلافة المنصور الدوانيقي، أي من سنة 83 هجري إلى سنة 148 هجري فقد أدرك طرفا كبيرا من العصر الأموي، وعاصر كثيرا من ملوكهم وشاهد من حكمهم أعنف اشكاله، وقضى حياته الأولى حتى الحادية عشر من عمره مع جده زين العابدين، وحتى الثانية والثلاثين مع أبيه الباقر ونشأ في ظلهما يتغذى تعاليمه وتنمو مواهبه وتربى تربيته الدينية، وتخرج من تلك المدرسة الجامعة فاختص بعد وفاة أبيه بالزعامة سنة 114 هجري، واتسعت مدرسته بنشاط الحركة العلمية في المدينة ومكة والكوفة وغيرها من الأقطار الإسلامية.
وقد اتسم العصر المذكور الذي عاشه الإمام بظهور الحركات الفكرية، ووفود الآراء الاعتقادية الغريبة إلى المجتمع الإسلامي وأهمها عنده هي حركة الغلاة الهدامة، الذين تطلعت رؤوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بث روح التفرقة بين المسلمين، وترعرعت بنات أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمة الانتصار لمبادئهم التي قضى عليها الإسلام، فقد اغتنموا الفرصة في بث تلك الآراء الفاسدة في المجتمع الإسلامي، فكانوا يبثون الأحاديث الكاذبة ويسندونها إلى حملة العلم من آل محمد، ليغروا به العامة، فكان المغيرة بن سعيد يدعي الاتصال بابي جعفر الباقر ويروي عنه الأحاديث المكذوبة، فأعلن الإمام الصادق - عليه السلام - كذبه والبراءة منه، وأعطى لأصحابه قاعدة في الأحاديث التي تروى عنه، فقال: لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة، أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة.
ثم إن الإمام قام بهداية الأمة إلى النهج الصواب في عصر تضاربت فيه الآراء والأفكار، واشتعلت فيه نار الحرب بين الأمويين ومعارضيهم من العباسيين، ففي تلك الظروف الصعبة والقاسية استغل الإمام الفرصة فنشر من أحاديث جده، وعلوم آبائه ما سارت به الركبان، وتربى على يديه آلاف من المحدثين والفقهاء. ولقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات - على اختلاف آرائهم ومقالاتهم - فكانوا أربعة آلاف رجل (1). وهذه سمة امتاز بها الإمام الصادق عن غيره من الأئمة - عليه وعليهم السلام -.