وإذا كان الامر كما ذكرنا، والحال على ما وصفنا، فواجب إذا على كل مكلف ذي عقل سليم مطلق من إسار الشهوات الحيوانية والشبهات الشيطانية أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في تحصيل الفوز بالنعيم الأبدي، والنجاة من العذاب السرمدي.
ومن المعلوم الواضح عند كل ذي بصيرة أن ذلك لا يحصل إلا بتزكية النفس وتطهيرها من الأدناس الطبيعية، والاخلاق البهيمية، وذلك منحصر في أمرين لا ثالث لهما، وهما: العلم النافع، والعمل الصالح. لكن الناس مختلفون في ذلك اختلافا كثيرا، ومتباينون فيه تباينا شديدا، فكل قوم يدعون أن ما هم عليه من القول والعمل هو الحق المؤدي إلى طهارة النفس وتزكيتها، وأن ما سوى ذلك باطل مضر بصاحبه، ويقيمون على ذلك دلائل من آرائهم، وبراهين من أفكارهم، ويدعي خصومهم مثل ذلك، ويعارضونهم بمثل ما ادعوه لأنفسهم وعارضوا به خصومهم، فكل بكل معارض وبعض ببعض مناقض. وما كان هذا سبيله فليس فيه شفاء غليل ولا برء عليل، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق أمر يقصد إليه، ولا شئ يعول عليه إلا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة الرسول الكريم المؤيد بالدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات التي يعجز كل أحد من البشر عن معارضتها والاتيان بمثلها.
فأما الكتاب العزيز، فإن الله تعالى تولى حفظه بنفسه ولم يكل ذلك إلى أحد من خلقه فقال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (1)، فظهر مصداق ذلك مع طول المدة، وامتداد الأيام، وتوالي الشهور، وتعاقب السنين، وانتشار أهل الاسلام، واتساع رقعته.