ثلاث وثلاثمائة وبغداد تغلي بالعلماء والأدباء والشعراء وأصحاب الحديث وأهل الأخبار والمجالس عامرة وأهلها متوافرون فأردت أن أطوف المجالس كلها وأخبر أخبارها فقيل لي إن ها هنا شيخا يقال له أبو العبرطن (1) أملح الناس يحدث بالأعاجيب فقلت لخالي مر بنا ندخل على الشيخ فقال إنه مهوس يضحك منه الناس فارتحلنا من بغداد ولم ندخل عليه وكنت أجد في القلب من ذلك ما أجد حتى إذا كان انحداري من الشام بعد طول من المدة وامتداد من الأيام والأعوام وتوفي خالي فلما دخلت بغداد فأول من سألت عنه سألت عن أبي العبرطن فقيل يعيش وله مجلس فقمت وعمدت إلى الكاغد والمحبرة وقصدت الشيخ فإذا الدار مملوءة من أولاد الملوك والأغنياء وأولاد الهاشميين بأيديهم الأقلام يكتبون وإذا مستمل (2) قائم في صحن الدار وإذا شيخ في صدر الدار ذو جمال وهيبة (3) قد وضع في رأسه طاق خف مقلوب واشتمل بفرو أسود قد جعل الجلد مما يلي بدنه فجلست في أخريات القوم وأخرجت الكاغد وانتظرت ما يذكر من الإسناد فلما فرغوا قال الشيخ حدثنا الأول عن الثاني عن الثالث أن الزنج والزط كلهم سود وحدثني خرباق عن نياق قال مطر الربيع ماء كله وحدثني دريد (4) عن رشيد قال الضرير يمشي رويدا قال أبو بكر أحمد بن يعقوب فبقيت أتعجب من أمر الشيخ فطلبت منه خلوة في أيام أعود إليه كل يوم فلا أصل إليه حتى كانت الليلة التي يخرج الناس فيها إلى الغدير اجتزت بباب داره فإذا الدار ليس بها أحد فدخلت فإذا الشيخ وحده جالس في صدر الدار فدنوت منه وسلمت عليه فرحب بي وأدناني وجعل يسألني فرأيت منه من جميل المحيا والعقل والأدب والظرافة واللباقة ما تحيرت فقال لي هل لك من حاجة قلت نعم قال وما هي قلت قد تحيرت في أمر الشيخ وما هو مدفوع (5) إليه بما لا يليق بعقله وحسن أدبه وبيانه وفصاحته فتنفس تنفسا شديدا ثم قال إن السلطان أرادني على عمل لم أكن أطيقه وحبسني في المطبق (6) أيام حياته فلما ولي ابنه عرض
(١٠٤)