تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٩ - الصفحة ١٦٨
فكأنه قيل وما تشاؤن مشيئة تستلزم الفعل إلا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلك فتأمل وأنت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومزال أقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلا اختيار وإلا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فأما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولا فيلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدع كل من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق وقرأ العربيان وابن كثير وما يشاؤن بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود إلا ما يشاء الله وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى إن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبه أبو حيان بأنهم نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أن يشاء بتقدير حرف الجر والاستثناء من أعم الأسباب أي وما تشاؤن بسبب من الأسباب إلا بأن يشاء الله تعالى. * (إن الله كان عليما) * مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم * (حكيما) * مبالغا في الحكمة فيفيض على كل ما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عليما أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حكيما لا يشاء إلا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى:
* (يدخل من يشآء فى رحمته والظ‍المين أعد لهم عذابا أليما) * * (يدخل من يشاء في رحمته) * الخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الايمان والطاعة * (والظالمين) * أي لأنفسهم وهم الذي علم فيهم الشر * (أعد لهم عذابا أليما) * متناهيا في الإيلام ونصب الظالمين بإضمار فعل يفسره أعد الخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة والظالمون على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية والأولى فعلية ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب وقرأ عبد الله وللظالمين بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل التوكيد وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أعد لهم والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة وأن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل ما تضمنت إلا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أتى على الإنسان حتى ختمها ثم قال إني أرى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبي صلى الله
(١٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 163 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 ... » »»