تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ٨٣
ذلك، واعتذر بأنه من باب التنبيه بحال الأدنى على حال الأعلى ولا يخفى أن ذكر العلو بعد عنوانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة.
* (تسبح له السم‍اوات السبع والارض ومن فيهن وإن من شىء إلا يسبح بحمده ول‍اكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) * * (تسبح) * بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو. والأخوين. وحفص، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقرىء * (سبحت) * * (له السم‍اوت السبع والأرض ومن فيهن) * أي من الملائكة والثقلين * (وإن من شيء) * من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا * (إلا يسبح) * ملتبسا * (بحمده) * تعالى، والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال.
وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى: * (ول‍اكن لا تفقهون تسبيحهم) * بناء على أن كثيرا من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بجلاله فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام.
وقوله تعالى: * (إنه كان حليما غفورا) * تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب، وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال: لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية والله تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس الله تعالى وينزهه ويشهد بجلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلا عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره، فالظاهر أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين اه‍، وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام، ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه البارىء سبحانه عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مطلقا سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي. وتعقبه بأنه لا يلائمه * (لا تفقهون) * لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي. وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليبا. وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن أنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات
(٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 ... » »»