لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال الكفر وإظهار الإخلاص، وأمر تعليق العلم هنا كؤمر تعليق نفيه فيما مر. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق. وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون. فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي قال نوع عليه السلام و * (ما علمي بما كانوا يعملون) * (الشعراء: 112) وقال شعيب عليه السلام: * (وما أنا عليكم بحفيظ) * (هود: 86) وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (لا تعلمهم نحن نعلمهم) * وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا * (سنعذبهم) * ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة * (مرتين) * أخرج ابن أبي حاتم. والطبراني في الأوسط. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا فقال قم يا فلان فأخرج فإنك منافق أخرج يا فلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر ". وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل، ولعل المراد به خوفه وتوقعه، وقيل: هو فرضى إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنه أنهم عذبوا بالجوع مرتين، وعن الحسن أن العذاب الأول أحذ الزكاة والثاني عذاب القبر. وعن ابن إسحق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه.
وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى: * (فارجع البصر كرتين) * (الملك: 4) لقوله سبحانه: * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) * (التوبة: 126) * (ثم يردون) * يوم القيامة الكبرى * (إلى عذاب عظيم) * هو عذاب النار، وتغيير الأسلوب على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب أسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالا وإن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه الله سبحانه وتعالى؛ والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن اختلفت طبقات عذابهم، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملا لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط، وقد يقال: إن في بناء * (يردون) * لما لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم.
* (وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) * * (وءاخرون) * بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل: هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم. قيل: وهو مبتدأ خبره جملة * (خلطوا) * وهي حال بتقدير - قد - والخبر جملة * (عسى الله) * الخ، والمحققون على أنه معطوف على * (منافقون) * أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون * (اعترفوا) * أي أقروا عن معرفة * (بذنوبهم) * التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه