قال * ع *: وهذه المسألة إذا تؤملت، قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين محكما ومتشابها، فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب، لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يتعلق به شئ يلبس، ويستوي في علمه الراسخ وغيره، والمتشابه على نوعين، منه: ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه: ما يحمل على وجوه في اللغة، ومناح في كلام العرب، فيتأول، ويعلم تأويله، ولا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا، بحسب ما قدر له، فمن قال: إن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه، فمراده النوع الثاني الذي ذكرناه، ومن قال: إن الراسخين لا يعلمون تأويله، فمراده النوع الأول، كأمر الروح، ووقت الساعة، لكن تخصيصه المتشابه بهذا النوع غير صحيح، بل هو نوعان، كما ذكرنا، والضمير في (تأويله) عائد على جميع متشابه القرآن، وهما نوعان، كما ذكرنا، والرسوخ: الثبوت في الشئ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم، فقال: " هو من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه "، قلت: ومن " جامع العتبية "، وسئل مالك عن تفسير الراسخين في العلم، فقال: العالمون العاملون بما علموا، المتبعون له، قال ابن رشد: قول مالك هذا هو معنى ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من الراسخ في العلم؟
فقال: " من برت يمينه، وصدق لسانه، / واستقام به قلبه، وعف بطنه، فذلك الراسخ في العلم "، قال ابن رشد: ويشهد لصحة هذا قول الله (عز وجل): (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28]، لأنه كلام يدل على أن من لم يخش الله، فليس بعالم. انتهى.
قلت: وقد جاء في فضل العلم آثار كثيرة، فمن أحسنها: ما رواه أبو عمر بن عبد البر بسنده، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، ويرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم،