سألوه الصلح. قال الشعبي: بلغ الهدى محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس، وأطعموا كل خيبر.
وقال الزهري: لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال موسى بن عقبة: قال رجل منصرفهم من الحديبية: ما هذا الفتح؟ لقد صدونا عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح، ويسألونكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ورأوا منكم ما كرهوا). وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم مجه فيها، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقيل: فجاش الماء حتى امتلأت، ولم ينفد ماؤها بعد.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يكون فتحا، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية؟ قلت: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها وتمت كان فتحا مبنيا. انتهى. وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان، وهو الفتح الأعظم، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية. وقال مجاهد: هو فتح خيبر. وفي حديث مجمع بن جارية: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا، إذ الناس يهزون الأباعر، فقيل: ما بال الناس؟ قالوا: أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم)، قال: فخرجنا نرجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم) عند كراع الغميم، فلما اجتمع الناس، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم): * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: (نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح). فقسمت خيبر على أهل الحديبية، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية. وقال الضحاك: الفتح: حصول المقصود بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وفتح مكة بغير قتال، فتناول الفتحين: الحديبية ومكة. وقيل: فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه. وقيل: قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة، وهي الحكومة، وكذا عن قتادة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز؛ كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوك، لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث أنه جهاد للعدو، وسبب للغفران والثواب والفتح والظفر بالبلد عنوة أو صلحا، بحرب أو بغير حرب، لأنه منغلق ما لم يظفر، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح. انتهى. وقال ابن عطية: المراد هنا: أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك علامة لغفرانه لك، فكأنها صيرورة، ولهذا قال عليه السلام: (لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلييمن الدنيا). انتهى. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز بحال لجاز: ليقوم زيد، في معنى: ليقومن زيد. انتهى. أما الكسر، فقد علل بأنه شبهت تشبيها بلام كي، وأما النصب فله أن يقول: ليس هذا نصبا، لكنها الحركة التي تكون مع وجود النون، بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف، وبعد هذا، فهذا القول ليس بشيء، إذ لا يحفظ من لسانهم: والله ليقوم، ولا بالله ليخرج زيد، بكسر اللام وحذف النون، وبقاء الفعل مفتوحا. * (ويتم نعمته عليك) *، بإظهارك على عدوك ورضاه عنك، وبفتح مكة والطائف وخيبر * (نصرا عزيزا) *، أي بالظفر والتمكن من الأعداء بالغنيمة والأسر والقتل نصرا فيه عز ومنعة. وأسندت العزة إليه مجازا، والعزيز حقيقة هو المنصور صلى الله عليه وسلم). وأعيد لفظ الله في: * (وينصرك الله نصرا) *، لما بعد عن ما عطف عليه، إذ في الجملتين قبله