وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة، وكذلك كتب الأنبياء.
والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط. واحتمل أن يكون مكتوبا بالعربي، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري. واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملا لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك، وختمه بخاتمة. وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان، ولما قرأت على الملأ الكتاب، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان، استشارتهم في أمرها. قال قتادة: وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر، وعنه: وثلاثة عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا، والله أعلم بذلك. وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف، والمراد هنا: أشيروا علي بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير. وقصدت بإشارتهم: استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا.
* (ما كنت قاطعة أمرا) *: أي مبرمة وفاصلة أمرا، * (حتى تشهدون) *: أي تحضروا عندي، فلا أستبد بأمر، بل تكونون حاضرين معي. وفي قراءة عبد الله: ما كنت قاضية أمرا، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي. وما كنت قاطعة أمرا، عام في كل أمر، أي إذا كانت عادتي هذه معكم، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعا؟ فراجعها الملأ بما أقرعينها من قولهم: إنهم * (أولوا قوة) *، أي قوة بالعدد والعدد، * (وأولو بأس شديد) *: أي أصحاب شجاعة ونجدة. أظهروا القوة العرضية، ثم القوة الذاتية، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث. ثم قالوا: * (والامر إليك فانظرى ماذا تأمرين) *، وذلك من حسن محاورتهم، إذ وكلوا الأمر إليها، وهو دليل على الطاعة المفرطة، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه، ومع ذلك فالأمر موكول إليك، كأنهم أشاروا أولا عليه بالحرب، أو أرادوا: نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن. فانظري ماذا تأمرين به، نرجع إليك ونتبع رأيك، وفانظري من التأمل والتفكر، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري، فهي في موضع مفعول لا نظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام.
ولما وصل إليها كتاب سليمان، لا على يد رجل بل على طائر، استعظمت ملك سليمان، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت: * (إن الملوك إذا دخلوا قرية) *: أي تغلبوا عليها، * (أفسدوها) *: أي خربوها بالهدم والحرق والقطع، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب، وخوف عليهم وحياطة لهم، واستعظام لملك سليمان. والظاهر أن * (وكذالك يفعلون) * هو من قولها، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل، وكانت ناشئة في بيت الملك، فرأت ذلك وسمعت. ذكرت ذلك تأكيدا لما ذكرت من حال الملوك. وقيل: هو من كلام الله إعلاما لرسوله صلى الله عليه وسلم) وأمته، وتصديقا لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا.
ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة، قالت: * (وإنى مرسلة إليهم) *، أي إلى سليمان ومن معه، رسلا بهدية، وجاء لفظ الهدية مبهما. وقد ذكروا في تعيينها أقوالا مضطربة متعارضة، وذكروا من حالها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية، وكلامه مع رسولها ما الله أعلم به. و * (فناظرة) * معطوف على * (مرسلة) *. و * (بم) * متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن البائ متعلقة بناظرة، وهو وهم فاحش، والنظر هنا معلق أيضا. والجملة في موضع مفعول به، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية، بل جوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان. والهدية: اسم لما يهدي، كالعطية هي اسم لما يعطى. وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكا دنياويا، أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، وفي الكلام حذف تقديره: فأرسلت الهدية، فلما جاء، أي الرسول سليمان، والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع